يتردد هذه الأيام كلام عريض عن (احترام الآخر) و(قبول الآخر) بحسب موجه جديدة حاول بعض الكتاب تسويقها في الكثير من المناسبات بسبب وبغير سبب، دون أي اعتبار للقيمة المعرفية والسلوكية المنضبطة لمثل هذه المقولات التي لا تأخذ معناها إلا عبر تحققها في الواقع عبر وعي جذري بالمفهوم مرتبط بتمثلات سلوكية تنعكس على المجتمع كعلامات للرقي يدركها كل إنسان يعيش في ذلك المجتمع دون أي دعوى فلسفية أو ماشابه. والحال أن هذا الكلام العريض عن الآخر وقبوله هو أيضا الوجه الآخر لأزمة الأوتوقراطية التي تأخذ بخناق المثقفين العرب فضلا عن المجتمعات العربية. فالرأي الواحد والفهم الواحد والقرار الواحد ليس فقط سلوكا تقليديا تقوم به القطاعات الشعبوية فحسب؛ بل هو سلوك النخبة بالرغم من أنها لا تمل ذلك الكلام العريض دون أن تجد له مصداقا في واقعها. ليس الآخر هو ذلك الذي نختلف عنه اختلافا كبيرا فحسب كالغرب بل ثمة آخر قريب وحميم هو الذي يكشف باستمرار أزمة المعنى في القول والسلوك العربيين لاسيما عند المثقفين. ذلك أن هناك بنية أوتوقراطية تشتغل عبر اللاوعي في تصرفات الكثيرين بطرق لا متناهية من القول والفعل وينعكس حضورها المضطرد باستمرار لاسيما في لحظات كاشفة تعريها وتنزع عنها تلك الطبقة الرقيقة لتتكشف عن ترسانة عتيدة تقبع في مخزون العقل الباطن بفعل تراكمات ترسبت فيها بنيات التخلف عبر مراحل تربوية مختلفة خصوصا مرحلة الطفولة. إن عادية التعبير عن المواقف الأوتوقراطية التي تفيض في تعبيرات المثقفين هي إحدى مفاعيل ذلك الاشتغال اللاوعي لبنية التخلف في الذهنيات التي تضمر تعبيراتها لتطلقها في لحظات معينة. وهي لحظات لا تختبر علاماتها تلك إلا كتأويل واضح على تلك الأوتوقراطية الكامنة وراء زيف الادعاء
فلنأخذ مثلا عبارة نمطية مشهورة يطلقها بعض مقدمي البرامج السياسية والحوارية وعلى رأسها برنامج شهير على قناة الجزيرة. تأتي تلك العبارة عادة على لسان مقدم البرنامج كجملة فاضحة لبعض أزمات الواقع العربي فيقول صاحبنا مثلا (يا أخى حتى أفريقيا....) وبالمعنى اللغوي لـ(حتى) هذه الذي يفيد الغاية والنهاية فإن تلك هذه العبارة الفاضحة بما تمثله من جوهرانية وتخلف أوتوقراطي تجعل من أفريقيا ـ بناء على نزعة عنصرية لونية مضمرة في الغالب ـ مثالا لكل شيء متخلف وبدائي. وبالقطع فإن أفريقيا بحسب هذا التعبير العربي ليست أفريقيا العربية التي تضم أكثر من نصف العرب في العالم بل هي أفريقيا أخرى تحضر بمثابة الآخر البدائي المتدني في سلم الرقي بحسب هذه المقولة، كما لو أن عرب أفريقيا يعيشون في الشمال الأوربي مثلا؟!
هذه الجوهرانية (والجوهرانية تعني فيما تعني إسقاط حالة وثوقية ثابتة غير قابلة للتغيير كتوهم آيدلوجي حيال الآخر) يجري تسويقها كحالة معممة على أفريقيا السوداء وهو تسويق مريح للذاكرة العربية حين تتوهم أن هناك باستمرار آخر أقل منها شأنا ويأتي بعدها دائما وكيفما كان حال هذا الواقع العربي. والحال أن تلك الجوهرانية ربما كانت ألصق بالواقع العربي منها بأي واقع آخر إذ أن التفكير بهكذا طريقة عن الآخر الحميم هو دليل الرؤية الجوهرانية ذاتها. لكن أفريقيا السوداء في بعض دولها جسدت واقعا آخر بعيدا عن ذلك الافتراض العربي وأصبحت دولا مثل غانا والسنغال وأثيوبيا وكينيا ونيجيريا محطات جديدة في الانتقال الديمقراطي كسرت ذلك النمط المعهود عن دول أفريقيا وخطت خطوات في طريق الديمقراطية أكثر بكثير من الدول العربية. ولعل في اختيار الرئيس الأمريكي باراك أوباما لدولة غانا ليلقي منها خطابه الشهير بخصوص أفريقيا ربما كان دليلا على هذا المعنى. بيد أن فكرة الاتصال بالآخر وقبوله والتفاعل معه في الفكر الديمقراطي تحيل على نقيض ما يتصوره البعض في المنطقة العربية عبر تلك العبارة إياها؛ فمن شروط الديمقراطية بناء علاقات بينية تخترق كل التحديات التي تمنع من المصلحة الإستراتيجية للدول التي تتجاور. ذلك أن الديمقراطية باعتبارها رؤية عقلانية للعلاقات تنحو بعيدا عن العواطف والأخيلة والتراث والماضي. فحين تمت الفكرة الجنينية للاتحاد الأوربي بين المستشار الألماني كونراد إديناور والجنرال شارل ديغول في ستينات القرن الماضي وفي أعقاب حرب عالمية مدمرة لاسيما بين البلدين كان ذلك بمثابة تحد في الاستجابة لقيم الديمقراطية في العلاقات البينية وحين نتأمل اليوم طبيعة العلاقة التي تفترضها الديمقراطية بين العرب والأفارقة سنجد أنها علاقة معطوبة ومرتهنة إلى تصورات ماضوية وأساطير وجفاء تغذيه أشكال وألوان من الأوهام المتبادلة بين الطرفين وهي علاقة بطبيعتها المعطوبة هذه تجسد حالة عيانية من حالات التخلف بين الطرفين. ذلك أن فكرة الآخر هنا بحسب الأوتوقراطية العربية تتجلى في هذه العلاقة على حقيقتها التي هي بخلاف ما هو ظاهر من حداثة وإدعاء باحترام قيم الآخر وقبوله. وهي حالة تغذيها حقائق أخرى عن الآخر الذي في داخل المجتمعات العربية نفسها عبر عناوينه المختلفة في الدين والمذهب والجندر واللون والعرق... ألخ... هكذا يمكن أن نرى مدى فجاجة ذلك الحديث عن احترام الآخر وقبوله في الكلام العربي العريض دون أي مصاديق وآثار إيجابية منعكسة في الواقع الاجتماعي العربي.
من السهل الحديث عن إدعاء القيم والأفكار، ولكن من الصعب جدا تمثلها في لحظات ومواقف تستدعي تحققها؛ فذلك رهين بالقدرة على إدراك وفهم وفرز سياقاتها الموضوعية والتاريخية وتأملها عميقا بين بيئة وأخرى.
كثيرون جدا يحسبون مفهوما مثل مفهوم (التسامح) في الثقافة العربية يحمل نفس المعنى في الثقافة الغريبة، بينما الأمر جد مختلف. فالتسامح في الثقافة الغربية - بحسب كارل بوبر - يعني (قبول الآخر) وقبول الآخر يعني قبولنا الآخر المغاير: السياسي / الديني / المذهبي /الجندري/ الإثني ألخ والتعايش معه كما هو لا كما نفترض أو نرغب؛ فالمعنى هنا أعمق بكثير من (احترام الآخر). فيما مفهوم التسامح في الفهم الإسلامي الآيدلوجي يعني ـ فيما يعني ـ العفو والتساهل الذي يمكن أن يكون شخصيا جدا، أي ذاتيا وليس موضوعيا. ذلك أن مفهوم التسامح بمعناه الحديث في الغرب هو مفهوم حديث أنتجه (التنوير) بينما هو لدينا مفهوم موروث ولا ينطوي على رؤية حديثة تتضمن قبولا للآخر كما هو لا كما نريده نحن.
[email protected]