حين تستضيف قنوات التلفزة العالمية ضيوفا من ذوي العيار الثقيل في الفكر والمعرفة تكون تلك المناسبة بمثابة حدث هام لا يوازيه إلا استعداد يليق بمثل أولئك الضيوف. وفي العادة يتحول الحدث إلى حالة استثنائية تنطوي على تغيير يشمل نكهة خاصة للبرنامج الحواري تخترق عاديته ونمطيته سواء لجهة تخصيص مذيع متميز وعميق الثقافة، أو لجهة كثافة الأسئلة وعمقها من طرف الطاقم الإعدادي للبرنامج، أو حتى لجهة تدوير زوايا الحوار عبر العديد من المذيعين مع الضيف لموازاة التنوع الذي يصدر عنه مثل هذا المفكر الكبير. وفي الغالب تكون تلك الاستضافة حلقة خاصة وعلامة كبرى مضيئة في مسيرة البرنامج. بيد أن قنواتنا العربية لا تكاد تنتبه إلى الأهمية الاستثنائية لهذه العقول الكبيرة حين تحل ضيوفا عليها؛ لا لناحية الاستعداد عبر إيكال إدارة الحوار لمذيع كبير أو حتى لمثقف عربي كبير ولا لناحية الحدث كحدث يستدعي الكثير من الترتيبات الهامة في البرامج الحوارية... قبل سنوات استضاف المذيع المصري أحمد منصور في برنامجه الشهير (بلا حدود) على قناة الجزيرة المفكر الفرنسي الكبير ريجيس دوبريه. وفيما كان الواقع يستدعي إما إعدادا جيدا من قبل طاقم البرنامج لناحية الأسئلة والمواضيع، أو تعددا في المحاورِين لتدوير زوايا النظر حول آفاق فكرية ومعرفية تليق بصاحب (ثورة في الثورة) ورفيق جيفارا في الأحراش الاستوائية، إلا أننا فوجئنا بأسئلة روتينية ذات طابع عادي وفقير بدا فيها ريجيس دوبريه كما لو كان محصورا بين كماشتين من سؤال مسطح إلى آخر، وبطبيعة الحال فإن التدفق الذي يصاحب إجابات هؤلاء المفكرين الكبار يصبح محدودا ومبتسرا في مثل هذه الحالات لاسيما مع ضيق الوقت وتلاحق الأسئلة التي تحتاج في إجاباتها إلى لا أو نعم. ولهذا عندما زار دوبريه المنطقة العربية وإسرائيل بعد ذلك وعقد مقارنات عن الحال الثقافية بين العرب وإسرائيل كانت المفارقة كبيرة جدا مما جعله يصرح تصريحه الشهير الذي نعت فيه العرب بكونهم أمة لا حاجة لها للثقافة والكتب متسائلا : (ولكن ما حاجة العرب أو المسلمين إلى الكتب إذا كانوا يمتلكون الكتاب الأعظم؟)... قبل أكثر من أسبوع استضاف المذيع التونسي غسان بن جدو في برنامجه الشهير على قناة الجزيرة (حوار مفتوح) المفكر الأمريكي الكبير نعوم تشومسكي. وكان واضحا منذ البداية أن طبيعة الحوار ستكون طبيعة نسقية مغلقة بين مفكر كبير يعتبر ضميرا أخلاقيا لأمريكا وبين مجموعة من الشباب الفلسطينيين تمت استضافتهم للحوار مع تشومسكي على خلفية الحديث عن قضية مركبة ومتشعبة كالقضية الفلسطينية. وبالرغم من ان مناسبة كهذه تستدعي حوارا مركبا واستثنائيا لتوثيق آراء مثل هؤلاء المفكرين الكبار لإدانة الدولة العبرية عبر تصريحات لشخصية فكرية عالمية مرموقة كـ(تشومسكي) مما سيكون له أبلغ الأثر على إسرائيل في ظل العزلة الدولية التي تعيشها. كان يمكن للحوار المذكور أن يكون ثريا وعميقا لو شاركت فيه شخصية فلسطينية كبيرة وذات وزن في الفكر والمعرفة مثل المفكر الفلسطيني عزمي بشارة مثلا. لكن جل الساعة التي كانت مخصصة للحوار بدت كما لو أنها حوارا محدودا جدا. فالمشاركون من الشباب والطلاب ركزوا على فكرة الحق المجرد والدفاع عنه لمجرد كونه حقا بعيدا عن كيفية أسلوب ذلك الدفاع، وطريقة التعبير الفعالة عن ذلك النضال ضمن حيثيات الواقع وإكراهاته. وتفكير كهذا يتحرك عبر مطلقات فكرية وعاطفية لا يمكن أن يجد له مطرحا عقلانيا للحوار مع شخصية مثل نعوم تشومسكي؛ لا لأن تشومسكي ينطلق من نظرته للقضية عبر انحياز أمريكي ـ كما قد يتوهم بعض المشاهدين أو حتى بعض الطلبة ربما ـ؛ وإنما لأن قضية بهذا التركيب والتعقيد تحتاج إلى الكثير من التأمل في معطيات الواقع وتعقيداته لاسيما عند مفكر كبير يقرأ الواقع باستراتيجية معرفية متقدمة كتشومسكي. ربما أضمر الطلاب المحاورون تصنيفا منمطا لنعوم تشومسكي من خلال تأكيده على رؤية الواقع والانطلاق منه؛ لولا تلك الخلفية التي نبه عليها مقدم البرنامج حول تشومسكي و إشارته إلى موقفه الأخلاقي والمبدئي من الحق الفلسطيني... هكذا عبر مثل هذا الحوار الذي لم تكن له أرضية مشتركة كافية تسمح بالتعمق أكثر في رؤى تشومسكي حول القضية الفلسطينية فات على كثيرين ما كان أجدر بقناة الجزيرة أن تقوم به في توجيه الحوار بصورة أعمق وأكثر ثراء لو تم من خلال مثاقفة نقدية معرفية تتضمن محاكمة وإدانة لإسرائيل عبر مناقشات من العيار الثقيل بين صاحب (صراع الشرق الأوسط) و كوكبة من المفكرين العرب في ذلك البرنامج. ربما لم يعرف كثيرون أن نعوم تشومسكي أصبح منشقا عالميا في المجتمع الأمريكي عبر نظرته الفلسفية الإنسانية الشاملة والعميقة التي لا تقبل قسمة البشر إلا على العدالة والحق؛ فتشومسكي وإدوارد سعيد ضمن قلة من مفكرين ناضلوا من أجل أن يتسع الأفق التأويلي للفلسفة المادية والسياسية في الغرب، ويفسح مكانا للحق والعدل الإنسانيين لكل البشر. ذلك أن فلسفة نعوم تشومسكي حول الحق والعدل كقيمتين عابرتين وشاملتين لكل البشر تقوم على : أن وجود جزء من تحقق العدل والحق الإنسانيين في أمريكا دول الغرب المتقدمة (بالنسبة لمواطنيها داخل حدودها) لا ينبغي أن يقمع الضمير الأخلاقي للغرب لتسويق فكرة الحق والعدل للبشر على مبدأ المساواة كفكرتين طوباويتين خارج ذلك الغرب. أي في دول العالم الثالث. هكذا ناضل أمثال إدوارد سعيد، وإيمي سيزر و تشومسكي وغيرهم من أجل إثبات فكرة إمكانية تعميم الحق والعدل الإنسانيين عبر القوة، لكل البشر الذين يستحقون ذلك من حيث كونهم بشرا، وفق رؤية إنسانية شاملة وعابرة لحيثياتهم الدينية والعرقية واللونية، فوصفهم البعض في الغرب بالحالمين... ومع ذلك فإن تلك المرافعة التاريخية العميقة التي كشف عبرها نعوم تشومسكي بشرح دقيق وعميق حقيقة امتناع أمريكا عن الاعتذار للفلسطينيين وربطها بالامتناع عن اعتذارات تاريخية أخرى من طرف أمريكا لكل من الافروأميركان والهنود الحمر، كانت هي الجزء الأهم في ذلك الحوار فمن خلالها كشف تشومسكي الأساس للمتوحش لفلسفة القوة عبر الداروينية الاجتماعية وارتقاءها في العقل الأمريكي إلى مصاف من طبيعة مقدسة تمنعه من تقديم زينك الاعتذارين التاريخيين للهنود الحمر والزنوج الأمريكيين فضلا عن الاعتذار للفلسطينيين.
في لقاءات كبرى كهذه يمكن للمفكرين الكبار تأسيس قناعات قوية قد تلعب دورا كبيرا في تغيير الأفكار. أي أن فكرة العنف كموضوعة مركزية في العقل الغربي والأمريكي ـ على النحو الذي شرحه تشومسكي من خلال إمتناع فكرة الاعتذار التاريخي للزنوج والفلسطينيين والهنود الحمر بناء على تقديس القوة والعنف في العقل الغربي والأمريكي ـ لا يمكن وعيها إلا بمثل تلك الرؤى الفلسفية العميقة والمقنعة لمثل هؤلاء المفكرين، بعيدا عن طنطنات بعض quot; المفكرينquot; العرب الذين يقاربون تحليلاتهم وأفكارهم في الفضائيات العربية، بمناسبة وبغير مناسبة،عبر قوالب جاهزة لمفاهيم ومصطلحات أبعد ما تكون عن حيثياتها وسياقاتها.
[email protected]