بصدور العدد صفر من مجلة (كلمن) الفصلية في لبنان ربما يحدث المرء نفسه عن أمل ما قد لا يهجر يقينه المتمادي في انسداد آفاق هذا الزمن العربي ؛ ولكن في الوقت نفسه يحيي بعض الرغبة في ملاذ مضيء للفكر والمعرفة حيال الكثير من الالتباسات المشوشة التي يضخها إعلام عربي غير مسؤول تقريبا حين يمرر تلك الالتباسات للملايين عبر وسائطه المتعددة والمبهرة بآخر ما أنتجته تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وهكذا تمر عناوين كثيرة في الأفكار والتصورات والمفاهيم لكتاب ومعلقين وبهلوانيين تحت شارات هوائية تعيد تعريفهم باستمرار، وتضخ كلامهم العريض عبارات أكثر حيرة عن الإسلام والحداثة والديمقراطية والليبرالية، ليعاد إنتاجه مرة أخرى في مقالات أخرى، ووسائط أخرى دون كلل أو ملل. وفي ظلام كهذا يستعير من (المتون الهرمسية)1 أسوأ ما فيها عبر كتابات فجة عن تلك المفاهيم ربما كان الاحتفاء بمثل مجلة (كلمن) يندرج في فرح مختلس داخل تلك (الظلمة الحزينة) التي يمر بها الإعلام العربي كحصيلة مؤذية للعديد من مؤثرات المال والسلطة العربيين. فالحياة برسم الإعلام العربي في شقه المقروء لا تبدو كملهاة للعبث المجاني فحسب، وإنما تبدو كدوامة مظلمة لا مخرج منها على هامش المحيط الضخم لثورة الاتصالات والمعلومات والحراك العولمي، الذي يموج من حولنا دون القدرة على التقاط بوصلة ضوء في تلك الدوامة، ودون القدرة على انتاج المعنى تجاه الذات والدور والجدية، في ذلك المحيط. ورغم التجارب الرائدة لإعلاميين عرب كبار ـ التي برغم جديتها ورصانتها هي بمثابة قطرة في بحر الإعلام ـ إلا أن انعكاس ذلك العبث على حياة الناس في البث والنشر الإعلاميين يكاد يكون هو المهيمن الأكبر على اهتمامات وميول المتلقين والقراء وبطريقة جدلية تنتج وتعيد إنتاج تصوراتهم تلك في الميول والرغبات والاهتمامات باستمرار. وفي هذه الدوامة يتم تعويم الأفكار عبر كتابات تسوق للهشاشة والتشويش حيال مفاهيم من قبيل: الإسلام، والعلمانية، والديمقراطية والحداثة ووو. بحيث يصبح الحديث عنها في أوساط الناس كما لو أنه حديثا يوهمنا تجاوز المعنى الموضوعي لتلك المفاهيم ـ عبر الكثرة والتكرار المعاد في تلك الكتابات المجانية ـ إلى تفاصيلها وفروعها التي يفترض في العادة أن تكون مكانا للاختلاف القائم على التسامح والتفاهم المبني على وعي المعنى المعرفي، فيما الواقع هو أن ضخ تلك الأفكار وتناولها بسهولة ومجانية بعيدا عن معناها الموضوعي والمعرفي، يعكس أثارها على الواقع وفي أذهان القراء ـ كما هو حال الإعلام العربي ـ بضخ المزيد من التشويش والخلافات الحادة والتكفير والتخوين بناء على تلك الكتابات للأسف وبصورة لا نهائية. والمفارقة في الأمر أن مثل تلك الكتابات الهوائية تظل باستمرار كتابة نسقية مغلقة لا تكاد تضيف شيئا إلى موضوعها ولا تفسر شيئا حيال ما يجري في الواقع من ظواهر في الأفكار والمجتمعات والعمران وحتى البيئة. فحين تغيب المعرفة تغيب أهم نتائجها المتمثلة في الشجاعة والموضوعية. هكذا وعلى ضوء ما أسلفنا يمكننا أن نتأمل طبيعة المجلة الفصلية الجديدة (كلمن) ـ إذا قدر لها الاستمرار ـ عبر الكلمة الافتتاحية لها التي حررها (حازم صاغية وحسن داود) حيث جاء فيها: (بات يصعب الكلام عن وسيلة إعلامية واحدة متحررة مما يعتقده quot; داعموهاquot; وممولوها. أما المجلات الشهرية والفصلية التي سبق للمثقفين العرب أن عرفوا تجارب رائدة منها فانكمش حضورها وتراجع. لتلك الحاجة إلى النقاش المفقود أو المعطل بين التيارات الفكرية والثقافية التقينا مجموعة من الكتاب والمثقفين لنتحاور حول تلك الحاجة الضرورة. ولنصل، فيما نراه بدء المطاف، إلى أن نضع إصدار quot; كلمن quot; هذا بين أيدي القراء) وبناء على هذه الفقرة يمكننا أن نتصور اهتمام مجلة كلمن ببعض ماهو غير مألوف في كتابات الإعلام العربي حيال الكثير من القضايا والظواهر والمفاهيم وهكذا فإن بعض أسماء هيئة تحريرها وكتاب المقالات، التي ضمت أسماء مرموقة في الفكر والمعرفة مثل (حازم صاغية ـ ياسين الحاج صالح ـ حيدر إبراهيم علي ـ أحمد بيضون ـ ووو) ربما تعين على طبيعة الطرح الذي تقوم عليه هذه المجلة. ففي ظل واقع مأزوم ومظلم كالواقع العربي في شتى مناحيه قد لا يفيد البحث في سطحه عن إجابات، سوى تلك الإجابات الجاهزة والمسطحة التي نعثر عليها هنا وهناك في الإعلام إياه، حيال أسئلة هذا الواقع. بيد أن ما جاء من موضوعات العدد صفر من المجلة كان يقع ضمن قراءات أخرى للقضايا العربية وبعيدا عن التسطيح. فحين يكتب حازم صاغية عن كينونة دبي المعلقة في الهواء، وعن واقعها الذي لا يدل على إشارات يمكن أن تمسكها أي قراءة موضوعية للفكر في مسارها ومستقبلها الغامض، وعن الحداثة الأداتية المجزوءة المعنى والخاوية من أي رصيد فكري يعكس معناها في العمران وغير ذلك من رؤى وأفكار عن ظاهرة دبي ودلالتها. وحين يكتب السوداني حيدر إبراهيم علي عن (الحائط المسدود) متحدثا عن أزمة الهوية العربية في السودان وعن حقيقة التعاطي العربي ذي الطابع الغريزي السلبي مع السودانيين وما يعكسه إحساس العرب المعاصرين من تجاوز يضمر تعجبا ملتبسا لـquot;عروبةquot; السوداني بناء على مغايرة لونية حاسمة لمسألة العروبة بحسب فهم غريزي متخلف يشرطها ببياض اللون، ضمن تصور مجرد لعروبة السودان في المعلومات العامة. وحين يكتب عباس بيضون عن أزمة مسيحيي لبنان وانكفائهم عن خيارات تأسيسية شكلت صورته تاريخيا عبر صورتهم. وشعورهم المرضي بكونهم أقلية في بلد هم صنعوا صورته وانجزوا مثاله وتوزعهم السياسي عبر واجهات طائفية أخرى متأثرين بما يجري حولهم في المنطقة حيال أوضاع مسيحيي مصر والمشرق العربي الذين لم يكونوا يوما ما في وراد سوية أو مقارنة بمسيحيي لبنان وصانعي صورته ووو ؛ حين نقع على مثل هذه الكتابات المختلفة نجد أنفسنا أمام حديث حقيقي حيال ظواهر لا يقبل الإعلام العربي في العادة الحديث عنها، ويدرجها فيما هو مسكوت عنه محليا وعربيا، متوهما أو جاهلا، بأن الحديث عن تلك الظواهر هو مما يسبب حرجا أو يفرق بين الناس، فيما الواقع أن طبيعة ذلك الحديث هو ما تقتضيه المعرفة والشجاعة بعيدا عن أي تحيزات عاطفية قد لا تنفع في تفكيك المشكلات المعقدة التي تمر بها المنطقة العربية. وبكلمة فإن ما يجمع بين تلك المقالات التي أشرنا لها كنماذج لبعض مقالات المجلة إنما هي شكل من أشكال مواجهة التخلف معرفيا بكافة أشكاله وتمظهراته المختلفة في هذا الجزء من العالم المسمى عربيا.
وبالرغم من أن الاتجاه العام لمسار المجلة لا يعكس رؤى آيدلوجية أو يبشر بخلاص فكري من الواقع العربي، إذ أن كتابها هم في الأصل ممن يشتغلون ضد الآيدلوجيا في الفكر والمعرفة والكتابة إلا أنها بالقطع تطرح مقاربات من أجل الحداثة كخيار كوني لا بد من أن تنخرط فيه هذه المنطقة التي تأخرت عنه كثيرا. ولا يمنع هذا بالطبع انفتاح المجلة على مختلف التيارات الفكرية في المنطقة العربية انطلاقا من إيمانها بضرورة الحوار الفكري بين الجميع كما جاء في ختام افتتاحية المجلة: (طبعا لن تكون مجلتنا حاملة رسالة آيدلوجية ضيقة تقع في أسرها. فهي، كما نرجو ونأمل، ستكون مفتوحة لكل من يساعد على تطويرها وتوسيع افقها).
هكذا يمكن لهذه المجلة التي جعلت عنوانها النسق الرابع من أنساق الأبجدية العربية (أبجد، هوز، حطي، كلمن...) أن تكون مسارا جديدا لكتابة مغايرة.
رابط المجلة على شبكة الانترنت http://www.kalamon.org/
[email protected]
1 المتون الهرمسية = نصوص فلسفية قديمة تعرف الشيء ونقيضة في عبارة واحدة
التعليقات