رغم صلاحية عنوان هذه المقالة كعلامة مجازية على موضوع أدبي، إلا أن ثمة علاقة قوية بينه وبين هذا الزمن العربي الذي نعيشه. فقد بلغ التشويش والضياع مبلغا لا مزيد عليه في غالبية التعبيرات التي تنعكس من صور الحياة العربية لا سيما في الإعلام العربي ؛ ذلك الإعلام الذي بطبيعته المتصلة بحياة الناس ربما كان العلامة الأولى على مؤشرات هذه الأصداء التي تنبعث من كل وسائطه. ولطالما أكثر الناس في الشرح والتحليل والكتابة حيال الكثير من الظواهر التي يضخها ذلك الإعلام دون القدرة على الإمساك بعصب القضية. فبعد سنوات طويلة من الأفكار المؤدلجة التي عششت في المنطقة العربية طوال القرن العشرين نشأت قناعة مضمرة مع وتيرة التحولات السريعة بفعل ثورة الاتصالات والمعلومات، وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي، مفادها: أن ما ينتج يوميا من أنماط الحياة المعاصرة وينهمر في الإعلام مع كل تقليعة جديدة في الفكر والموضة لا يصلح معه إلا المواكبة. وهكذا بدا أن ماشاع ورسخ في وعي التصورات العامة للناس عبر تأثير الإعلام هو تماما هوس الانخراط في إيقاع الحياة بحسب ذلك الإعلام. وهي حياة موارة بالموضة والدعايات والوسائط التكنولوجية. ونشأ عن هذا الإيحاء الخادع إيحاء آخر أشد مكرا وهو ذلك الافتراض الذي يظن كثيرون من خلاله أن مجرد استعمالهم لهذه الوسائط التقنية هو بذاته علامة على انخراطهم في العالم الحديث. وعلى هذه الشاكلة ظن كثيرون أنهم بمجرد مشاهدة برنامج أمريكي شهير مثل برنامج (أوبرا) والبرامج الأخرى التي يتم تقليدها بغباء مضحك مثل (استتار أكاديمي) ومن (سيربح المليون) إنما هم في حالة من التماهي مع ذلك العالم الافتراضي الذي تنشأ على هامشه مئات الآلاف من ردود الأفعال الساذجة والمكلفة والمليئة بالتناقضات في حياة المراهقين الذين في العادة لا يحسبون الفرق بين الواقع والخيال. وانتشار هذه البرامج في الإعلام العربي وتسويقها المكثف بالإضافة إلى المسلسلات العربية التي تعكس هامشا موازيا لحياة غربية يتم تقليدها بغباء ؛ هو الوجه الأشد قبحا للمأزق التاريخي في هذا الجزء من العالم، أي ذلك التخلف الذي بلغ مبلغا مريعا إلى درجة لا يمكن من خلالها إمكانية إدراك مخرج منه حتى لدى أكثر المفكرين عقلانية وعمقا. ذلك أن الانسداد أصبح جدارا سميكا استحالت معه كل بصيرة لمعرفة الطريق إلى إدراك كينونة حضارية للعرب في الأزمنة الحديثة. إن الأمر أشبه تماما بالورطة المزمنة، فمن جهة هناك حضارة حديثة لابد من التفاعل الايجابي معها للبقاء في شرط العصر، ومن جهة ثانية هناك ضياع ظاهر يمثله التخلف العربي المعاصر، نشأ عنه عجز عن إدراك شفرة التفاعل الخلاق مع تلك الحضارة، ومن جهة ثالثة هناك كينونة حضارية تاريخية للعرب جسدها الإسلام في التاريخ. ونتيجة للخلط والتشويش بين هذه العناصر الثلاثة يتمدد زمن عربي هلامي وبلا معنى تقريبا. وهذه الحالة التي يضخها الإعلام العربي وقنواته لتوهم المجتمع المسكين بأنه يعيش في قلب الحداثة، تكشفها دائما صدمات محبطة في الإعلام الغربي لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية. فكم هو صادم أن ينخرط مجتمع ما في تقليد حياة مجتمع آخر حتى الثمالة، فيما لا يكاد هذا المجتمع الآخر (الأمريكي الأوربي) يعرف عنه سوى معلومات وتصورات بدائية تخرج المجتمع العربي بعيدا عن الحياة الحديثة حتى في أبسط أشكالها التقنية. فلطالما تساءل كثير من الأمريكيين ببراءة عندما يلتقون ببعض زملاءهم العرب في أمريكا: عما إذا كان العرب في بلادهم البعيدة يستخدمون الكهرباء؟ أويقودون السيارات مثلا ؟ وما إذا كانت شوارعهم مسفلتة أم ترابية؟ وهنا ينشأ في العادة سؤال ممض لكل من يهتم بأمر العلاقة مع الغرب وهو: كيف امتدت هذه العلاقة لأكثر من قرنين من الاحتكاك بين العرب والغرب دون أن تؤدي إلى انتفاء تلك النظرة حيال العرب في أوربا وأمريكا؟.. لكن ربما كان السؤال الأهم هو: لماذا ظل العرب يقلدون مظاهر وقشور الحياة في أمريكا وأوربا دون تقليد القيم الحية كحب العمل، والمسئولية، والحرية السياسية والفكرية، والقدرة على تغيير الواقع إلى ما هو أفضل، والإبداع ووو ؟ وبالجملة لماذا لا يستطيع العرب حل تناقضات حياتهم في السياسة والفكر والاقتصاد بالعقلانية والحوار والمعرفة، كما في أوربا وأمريكا، بدلا من العنف والإقصاء والقتل والأوتوقراطية ؟... رغم هذه الأسئلة الشائكة، والإجابات المتعددة التي يمكن أن تترتب عليها، سيظل الخلل غير الطبيعي في إدراك طريقة اشتغال التخلف ورواسبه المعبرة عن نفسها بالتناقضات التي تتحكم في حياتنا، هو المظهر الموضوعي الظاهر للأزمة.
فحين تتجدد الدهشة بمخترعات الحياة المادية في أوربا وأمريكا، منذ أيام رفاعة الطهطاوي وإلى يومنا هذا بأساليب لا متناهية في مئات آلاف المرات والحالات التي تحصل للأفراد والجماعات دون أن تتوقف تلك الدهشة ولو لمرة واحدة ؛ لا ينطوي ذلك على غياب معنى منضبط لأسباب الأزمة التي تعيشها مجتمعاتنا فحسب ؛ بل على عدم القدرة على اكتشاف أسباب الأزمة في أي لحظة من لحظات الزمن المدور في هذه المجتمعات.
لقد توقفت تلك الدهشة في عيون الكوريين والتايوانيين وحتى الماليزيين (كان دخل الفرد العراقي أعلى من التايواني والماليزي في العام 1977) بعد أن ظهرت الاختراعات في أيديهم، وتكررت المعجزات التقنية الصغيرة في حياتهم، فيما لم تظهر في حياتنا بالرغم من أننا أبصرناها قبلهم لأول مرة بسنوات طويلة ؟... هكذا تنشأ العديد من الأسئلة بلا إجابات...؟ ويبقى زمن الأصداء متجددا في هذا الجزء من العالم المسمى عربيا دون أن يملك قدرة على الخروج من تلك الدوامة. ذات مرة تعجب سمير قصير من عناصر القوة التي تحولها الشعوب الأخرى إلى أسباب نجاح بمجرد وجودها فيما تكون عند العرب سببا للفشل ! فالثروة، والموقع الاستراتيجي واللغة الواحدة وغيرها من العناصر الإيجابية تحولت عن العرب فقط إلى عناصر فشل وفقر وضعف وتجزئة.
إذن ما هو الحل ؟ هل يمكن للإنحلال أن يكون حلا كما تساءل المفكر ياسين الحاج صالح ذات مقال؟ أي هل المخرج سيكون بعد التدمير الكامل والانحلال النهائي ليكون ذلك بذاته سببا كافيا للشروع في بناء وتركيب جديدين ؟
وإذ نتساءل اليوم حتى في نطاقنا الجغرافي والشرق أوسطي: كيف يمكننا فهم إقبال العرب بدولهم الـ22 على مسلسلات دولتين من دول الجوار (تركيا وإيران) دون أن يكون لدولهم الـ 22 تأثيرا مقابلا ـ بمسلسلاتهم على الأقل ـ في تركيا وإيران ؟ فسنجد التفسير في التساؤل الآخر حيال قدرة تركيا وإيران على التأثير في النطاق الجيوسياسي العربي، دون العكس. وهو تأثير لا ينبع من الكم العددي للدولتين بالطبع قياسا بعدد العرب ودولهم، وإنما ينبع على الأقل ـ فيما هو ظاهر ـ من تلك الحرية التي يتمتع بها الأتراك والإيرانيون لاسيما في إدارة الشأن العام، والحيوية التي تنعكس في فنونهم من تلك الحرية. وهكذا سيظل مسار العرب نحو الحداثة (كمن يقصد البحر وهو يستدبره) بحسب عبارة أبي حامد الغزالي.
[email protected]