حين يسكن الخوف المطلق أعماق البشر، تنزع تصوراتهم وأحاسيسهم حيال مصدر ذلك الخوف نحو قوة خارقة. ذلك أن من يملك فعل القتل العشوائي وأدواته الفتاكة لمجرد الاختلاف معه، يستدعي في لاوعي الخائفين شعورا بالرهبة يدرجه في مصاف إلهية. وهكذا حين تستوي علاقات الحكام والمحكومين في هذه المنطقة ضمن ذلك الإطار، يشعر الحاكم كما لو أنه إلها، ويتصرف كما يشاء في رعيته. عند هذه النقطة تحديدا، يصبح الواقع بفعل ذلك الخوف الرهيب، حالة كيانية لموت آخر يطال حياة البشر ومجتمعاتهم. ومن يتأمل عميقا هذا المعنى في ردود أفعال الطغاة العرب ـ كالقذافي و بشار الأسد مثلا ـ إذ يقابلان معارضة شعبيهما بالقتل والعنف المميت لا يكتشف فقط كمية التوحش التي جعلت من القتل غريزة لهؤلاء الطغاة فحسب، بل كذلك سيكتشف أن تغلغل ذلك الإحساس الرهيب بالخوف على مدى قرون طويلة جعل هذه المنطقة منطقة ميتة وخارج التاريخ. هذا واقع مخزي وعميق الدلالة على طول المسافة التي تفصل العرب عن الحداثة السياسية. فالحالة السكونية التي جعلت حياة العرب وكثير من المسلمين والأفارقة على هذا النحو من العلاقة بحكامهم، تجعلنا ندرك تماما مغزى هذه الزلازل الكبرى التي تحدث في المنطقة ؛ ابتداء من تونس، ومرورا بمصر، ووصولا إلى ليبيا واليمن وسوريا. إنها لحظة أسطورية نادرة تحمل في دلالتها الكثير من الحقائق المتصلة بالواقع الجديد الذي تمر به.
فما يجري اليوم، في ليبيا وسوريا مثلا، هو بمثابة حرب تحرير قاسية تقودها الشعوب في مواجهة خوفها الذي يتغذى عليه الطغاة ؛ حرب سيتم عبرها تحويل مشاعر الخوف لدى تلك الشعوب من نطاقها الإلهي إلى نطاقها البشري في طريق طويل ستتكشف خلاله الكثير من علامات الاستفهام التي ظلت مستعصية لقرون، لا عبر إعادة النظر إلى السياسة وإخراجها من التابوهات فحسب، بل كذلك عبر النظر إلى الحياة بوصفها فرصة عظيمة للعيش بحرية وكرامة وعدالة. وهكذا سنجد أن ما كان يشبه استثناءً أُريد من خلاله أن تعيش هذه المنطقة خارج التاريخ، أصبح بعد زوال ذلك الخوف، بابا للدخول في العالم الحديث كبداية لأزمنة عربية جديدة.
ربما كان هذا الثمن القاسي لمواجهة تلك الآلهة الكاذبة التي تحكمت ومازالت تتحكم بمصائر شعوب الشرق الأوسط هو استحقاق تاريخي لا يمكن الخروج من نفقه إلا على هذا النحو المميت من العنف الدموي، ولكن في الوقت نفسه سيكون هذا الخروج الأخير من خواف آلهة الشرق الأوسط ؛ الوجه الآخر للحقيقة الذي سيفسر لنا كم أن ذلك الخوف لم يكن نتاج لديكتاتورية سياسية فحسب، بقدر ما هو نتاج لاستبداد تغلغل في بنية تاريخية عميقة من حياة هذه المجتمعات.
وبهذا المعنى فإن طبيعة الصراع بين هذه الشعوب وبين الإلهة البشرية الكاذبة لن تجد حلا أو تسوية وسطا، لا سيما في سوريا وليبيا، ففي هذين البلدين ليست السلطة السياسية فحسب هي من تمنح أولئك الطغاة شعورهم الأُلوهي بأنهم القدر والمصير لشعوبهم ؛ بل هو ذلك الخواف التاريخي في النظر إليهم كآلهة لا تسأل عما تفعل في أمورها. ولهذا فإن أي تحليل سياسي يفترض مقاربة عقلانية في إمكانية تسليم أمثال الأسد أو القذافي لشعبيهما بالحق في الرأي والسلطة يصبح مجرد نكتة سمجة.
ذلك أن الإنسان حين يحتكر سلطة مطلقة ولمدة طويلة يتملكه إحساس ألولهي كاذب لا يمكن أن يفارقه حتى حين يكون خارجها. ولعل ذلك يفسر لنا ما رواه البعض عن جمال مبارك، حين تعجب من تغيير الدستور دون استشارته، بالرغم من كونه سجينا في تلك اللحظة؟!
إن السلطة في مثل هذه الحال تصبح كالغدة السرطانية لا يمكن فصل صاحبها عنها إلا بالاستئصال، أي بالثورة بدلا من الإصلاح أو التسوية.
ولهذا فإن الطغاة، لا سيما القذافي والأسد، سيمارسون القتل تحت ذلك الشعور الألوهي الكاذب بالسلطة وهو شعور لن يسمح بأدنى من القتل.
وبما أن طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم في هذا الجزء من العالم المسمى عربيا هي من طينة ذلك الخواف ـ وإن بدرجات مختلفة ـ فإنه بالتأكيد ستسري هذه العدوى في المنطقة العربية كلها لا بسبب وسائط الاتصال الحديثة (الفيس بوك والتويتر واليوتيوب) فحسب، بل كذلك بسبب تلك الطينة التي لابد أن تتفسخ برمتها.
وكما قلنا في مقال سابق، فإن رأس جبل الجليد وحده سيظهر مع بداية هذه الثورات لأن طبيعة الخروج من هذا النفق التاريخي للتخلف بمثل هذه الثورات سيؤدي لاحقا بالضرورة إلى إعادة تأويل صحيح للكثير من المفاهيم والأفكار والتصورات والمصطلحات، أي أن الحرية التي ستطلق رهانا طويلا نحو المعرفة لن تتوقف أبدا.
وعندها سنعرف أن التخلف هو القناع الذي كان يحجب تصوراتنا عن حقائق الأشياء والأفكار سواء حول الإسلام أو العلمانية، أو تلك المصطلحات التي كان يتم استهلاكها بطريقة ميتة مثل : الشعب والدستور والمواطنة والوطن... الخ
ولعل من أهم الحقائق التي سنكتشفها : أن الغرب لم يكن يحتقرنا لأننا مسلمون مثلا كما تصور لنا الآيدلوجيا الإسلاموية ؛ بل لسبب آخر خطير وهو : أننا ببساطة لا نحل تناقضاتنا بالحوار ـ الذي هو علامة الرشد الإنساني ـ وخير مثال على ذلك هو ما يفعله هؤلاء الطغاة الآن بشعوبهم التي يقتلونها لمجرد اختلافها معهم في الرأي. وكذلك سنكتشف أن أبرز نتائج تحرر الشعوب العربية وإمساكها بمصيرها السياسي هو أفول تنظيم القاعدة الإرهابي الذي يزدهر في أزمنة الخوف والقمع والموت والصمت. أما حين تمسك الشعوب بمصيرها السياسي فإن ذلك بمثابة الضوء الذي تهرب منه خفافيش القاعدة. فالقاعدة هي أسوأ كابوس أنتجه التخلف لتأويل الدين. ولهذا نجد زعماء القاعدة يموتون غيظا من هذه الشعوب التي سحبت البساط من تحت أرجلهم حين كانوا ينطقون باسمها ـ كالأنبياء الكذبة ـ في أزمنة الخوف والقمع
[email protected]