مايدور من حوار في الفضائيات العربية، لا يحيل أبدا إلى تلك الحاجة الملحة لضرورة الفرز بين ماهو معرفي وبين ماهو آيدلوجي وسجالي في القضايا الفكرية التي تشغل بال الناس. وفي غياب ذلك الفرز الذي يكون الحوار الموضوعي من أهم آلياته يصبح من العسير الوصول إلى قناعات ممكنة ومتماسكة للمفكرين فضلا عن المشاهدين، ذلك الفرز المطلوب ظل عسيرا وبلغ إلى درجة الاستحالة تقريبا في ظل هذا الواقع المستقطب والمتوتر دوما. وهو واقع بطبيعته تلك لا يسمح بإمكانية الإصغاء إلى قضايا الفكر في السياقات المعرفية والمتخصصة. إذ أن ماينتجه هذا الواقع العربي المأزوم منذ عقود طويلة لم يكن إلا تدويرا للآيدلوجيا عبر أقنعة مختلفة، من ماركسية إلى قومية إلى اسلاموية. والآيدلوجيا بطبيعتها انسدادية ونسقية أي لايمكنها أن تؤدي في النهاية إلى فرز معرفي قائم على منطق الوعي. والسؤال الذي يتبادر إلى ذهن المتابع في هذه البرامج الحوارية المتناسخة والمملة، تلك التي تأتي بنفس الضيوف ونفس الوجوه تقريبا، هو: أين تكمن المشكلة؟ هل قضايا العرب الفكرية وحواراتهم ستظل هكذا في متاهة السجال الآيدلوجي إلى مالانهاية؟ أم أن هذه الفضائيات أدمنت واستمرأت لعبة الضجيج والزعيق بعيدا عن الفكر والمعرفة لتستجيب إلى رغبة المعلنين والمشاهدين على قياس قاعدة (الجمهور عاوز كده)؟ هذه أسئلة تدور في ذهن الكثيرين ممن يتابعون ببراءة وصدق ـ مثلهم مثل الملايين من العرب ـ الذين يحسبون أن ذلك الصندوق التلفزيوني مصدرا للمعرفة، ويشاهدون هذه الحوارات بهدف الاستفادة. ولكنهم في الغالب لا يحصدون سوى الحيرة. ففي برنامج (حوار العرب) الشهير على قناة (العربية) دار سجال عن مفهوم الدولة في الإسلام وهل في الإسلام دولة؟ أم أنه مجرد دين لا ينطوي على تعاليم بشأن إدارة الشأن العام؟. أول مايلفت النظر في إجابات أولئك الضيوف (المفكرين) هو تلك النزعة الاطلاقية اليقينية حيال قضية نظرية سجالية بامتياز. وطبيعة كهذه للسجال لا تؤدي بالطبع إلى نتائج معرفية حيال القضية المطروحة، بل تعبر باستمرار عن المأزق المزمن الذي يتكشف من وراء ذلك السجال، أي مأزق الأوتوقراطية التي هي الداء الدفين في جميع نواحي الحياة العربية سواء أتعلق الأمر بالفكر أم بالواقع أم بالمجتمع... لقد كان النفي والإنكار حتى للحقائق التاريخية يندرج في ذلك الحوار كما لو أنه قضية سجالية والمطلوب فيها إثبات وجهة النظر بالضربة القاضية. فقد زعم أحد الضيوف (المعممين) الأستاذ إياد جمال الدين في ذلك الحوار: أن ظاهرة النفاق في العهد النبوي بالمدينة هي نتيجة للسلطة التي كان يديرها النبي محمد (ص)، دون أن ينتبه للتناقض الأصلي في دعواه، أي في اندراج تلك الظاهرة (النفاق) في سياق التحذيرات القرآنية الموجهة للمسلمين أنفسهم، مع كونها في نفس الوقت خيارا من الخيارات الممكنة لتلك الطائفة. والحال أن ذلك (المفكر المعمم) سيجد نفسه أمام آيات قرآنية يؤمن بها ـ من حيث كونه مسلما ـ لا يمكن فهمها إلا من خلال ظاهرة النفاق، فمجرد ورود تلك الآيات في النص القرآني يعني أن ذلك جزء من اعتقاده الديني مما يعكس تهافت دعواه. أما الشيخ الآخر (الشيخ خليل الميس) فلكي يتخلص من تهمة الممارسات التي وقعت باسم الدولة في التاريخ الإسلامي وماسال بسببها من دماء، ذهب إلى أن (الدين هو العلمنة) في تناقض واضح حول أصل القضية أيضا. والمفارقة أن الشيخ الأول (إياد جمال الدين) أنطلق من ظاهرة وجود النفاق في المدينة في عهد النبي كسبب إلى ضرورة علمنة الدولة، فيما انطلق الشيخ الثاني (خليل الميس) من مفهوم مجرد للدين للدلالة على كونه معلمنا؟ !! هذا التخبط الواضح حيال قضية جدلية بامتياز مثل قضية (الدولة الإسلامية) كان في حاجة إلى المزيد من ضخ (الفوازير) من قبل الضيوف الآخرين فنفى أحدهم ـ وهو دكتور في الجامعة اللبنانية ـ وجود دولة إسلامية أصلا في التاريخ الإسلامي ـ أي وجود نظام معني بإدارة الشأن العام للمسلمين ـ فيما أكد الضيف الآخر (الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين) ضرورة الدولة الإسلامية ـ دون أن يقول لنا كيف ـ مستشهدا ببعض الأحداث التاريخية في العهد الأموي. ومنذ العهد الأموي إلى العالم الحديث تغير العالم مرة وإلى الأبد، وشكلت الحداثة صورة لعالم معقد ومركب على نحو لم يسبق له مثيل. وبلع درجة قصوى من فتوحات العقل والمعرفة لا يمكن لمسلم عاقل أن يتجاهلها؛ الأمر الذي سيضعنا أمام أسئلة صعبة من قبيل: كيف يمكن تأسيس دولة إسلامية ـ من خلال فهم المسلمين المتخلف للإسلام اليوم ـ دون أن تكون مشروعا مفتوحا للحروب الأهلية، ونسف التعايش السلمي بين الطوائف والمذاهب، والمزيد من التمييز والهجرة، كما تحقق في كل نماذج quot; الدولة الإسلامية quot; المؤدلجة في أفغانستان (طالبان) وغزة (حماس) وصومال (المحاكم الإسلامية) وسودان (الجبهة الإسلامية)؟. أو من قبيل كيف سنطبق quot; العلمانيةquot; وأمامنا نماذج مؤدجلة مثل نماذج الدولة الوطنية مابعد الاستعمار في مصر والعراق وسورية ووو.. وهي نماذج أدت إلى المزيد من التفكك والضعف والانهيارات في المنطقة العربية. لكن ربما كان الإشكال الحقيقي ليس في الاسلام ولا في العلمانية، وإنما في ذلك التخلف الذي يعكس باستمرار صورا لوعينا الشقي والمؤدلج والأوتوقراطي حيال تلك المفاهيم. ذلك أن غياب ذلك الوعي العربي الشقي في نماذج أخرى حقق تقدما خارج المنطقة العربية (تركيا ـ ماليزيا) مع تلك المفاهيم عينها الأمر الذي يؤكد أن محنتنا الأوتوقراطية العربية هي المشكلة وليس بالضرورة تلك المفاهيم. [email protected]