الطقوس كلمة غامضة ومحاطة بالكثير من العلامات والأسرار. فهي حين تحضر تغيب معها الكثير من المعاني المتماسكة والمنضبطة لا سيما في مجال العبادات الدينية. ورغم غرابة هذه الكلمة في الدلالة على عبادة إسلامية ما، إلا أنها تحضر بكل ثقلها الغامض لتلف الكثير من العبادات والشعائر. وهي عند ذلك ربما كانت سببا لغياب المعنى. فشعيرة إسلامية كبرى كشعيرة الحج بالرغم من الكثير من المعاني التوقيفية في مفرداتها ـ أي تلك الأعمال التي يؤديها الحاج امتثالا فقط دون أن يقع على معنى متعقل لها ـ إلا أنها مع ذلك ربما كانت، ضمن أسباب أخرى كثيرة تتعلق بما يتصل بحياة المسلمين في هذا الزمن من جهل وتخلف؛ من أهم الشعائر الإسلامية التي تبرز فيها فكرة الطقوس فتؤدي بذلك إلى غياب حقائق أخرى لمعاني الحج، ومن ثم حضور الكثير من السلبيات التي تصاحب أداء الشعائر باعتبارها طقوسا محضة. هكذا تلعب أسباب كثيرة في مضاعفة المشقة وتحويل الحج لدى الكثير من المسلمين إلى رحلة متصلة من المعاناة المادية والرهق والتشنج، وخاوية من المعنى والدلالة في المراد منها حيال عبادة الله. يرتبط الحج في ذاكرة المسلمين المعاصرين بالخوف والزحام والمشقة ومظنة الموت، كما لو كانت هذه العبادة عندهم موسما للعنت المتصل، وهكذا في ظل هذه المعاني السلبية والمتراكمة عبر قرون التخلف ربما أصبح من الصعوبة بمكان النظر إلى الحج بحسبانه عبادة سهلة وميسرة ويمكن أداؤها دون استصحاب تلك الطاقة المدمرة من التشنج والهيستريا لاسيما عند رمي الجمرات. إن ما يعكس سلوك ديانة ما في الحياة ليس القيم التي تحض عليها، فهذه القيم المثالية إن لم تتجلى في ظهور عياني ومشخص في سلوك إتباعها فلن تكون ذات معنى. والحال أن من يرى أحوال المسلمين في الحج يغلب عليه ظن راجح بأن تلك القيم الروحية ومعاني اليسر والتسهيل التي حض عليها النبي صلى الله عليه وسلم في تعليقه على أفعال الصحابة في حجة الوداع بقوله (لا حرج لا حرج لا حرج) ربما كانت غير حاضرة في سلوك عامة الحجاج حيال بعضهم البعض. فمن يرى الملاحقات بين رجال الأمن والحجاج الذين جاءوا للحج بدون تصريح و ما يصاحب ذلك من الزعيق المزعج لأبواق السيارات طوال ساعات الليل والنهار، والأوامر الملحة لمنع أولئك الحجاج من الجلوس أو النوم في طرقات وادي المشعر الحرام ـ بحسب تقارير صحفية ذكرت حتى حالات اعتداء من قبل بعض الحجاج على رجال الأمن ارتبطت بالشروع بالقتل ـ يحيل الأمر برمته إلى حالة من عدم الاستقرار والحراك والتنقل السريع من مكان إلى مكان ومن ظل إلى ظل، في وضع يمكن أن يوصف بكل ما ينزع عنه معنى السكينة الذي ينبغي أن يصاحب رحلة الحج والحجيج في تلك المشاعر المقدسة. بيد أن الخلل الأكبر في كل ما يصاحب هذه الشعيرة العظيمة من هرج وحراك طقوسي لا يرحم صغيرا ولا يوقر كبيرا، يعود مرة أخرى إلى جهل المسلمين وتخلفهم. وبالرغم من إن المملكة العربية السعودية وفرت خدمات كبرى جليلة من أجل راحة الحجاج من حيث التنظيم والتيسير في المشاعر المقدسة؛ إلا أن الداء الدفين يكمن في سلوك الجهل الذي يمارسه المسلمون أثناء أداء مشاعر الحج، وهو بالطبع داء لا تنفع معه كل التيسيرات إذا كان صاحبه لا يستطيع أن يدرك معنى الحج كعبادة سامية للتطهر والمغفرة ومحو الذنوب. وما ينبغي أن يتصل بها من صبر وتسامح وذكر لله وتجاوز عن الأذى. لقد اختار الله جبال فاران المقدسة مكانا لحرمه وبيته وهي جبال قاحلة لا ماء فيها ولا شجر ولا ظلال، وفي هذا الاختيار تذكير دائم للمسلم بأن مجيئه إلى هذا المكان إنما هو فقط لذكر الله والتقرب إليه والإكثار من أعمال الخير والبر في هذه الأماكن المقدسة. إن ما يمنح معنى الحج حقيقته لدى الناس هو العلم والإيمان حين يتصلا بسلوك الحجيج فينعكس ذلك أمنا وطمأنينة ورحمة في حركتهم وسكونهم. وللأسف فإن غياب هذه المعاني في سلوكيات أغلب الحجاج هي ما يمنع ذلك الإحساس الحقيقي والتحقق الأسمى بمشاعر العبادة لشعيرة الحج الكبرى. صحيح أن المشقة مظنونة في الحج وأنها مشقة متصلة بطبيعة هذه العبادة التي يمتحن الله فيها عباده ويختبر قدرتهم على الصبر واحتمال الرهق. والحال أن الذي يتحقق في مثل هذا الموسم بحسب حال المسلمين وتخلفهم؛ هو كل ما هو عكس ذلك تقريبا؛ كما نرى في سلوك الحجيج لا مع إخوانهم من الحجاج فحسب؛ بل وحتى في طبيعة أدائهم للمناسك وما يصاحب ذلك الأداء من عنف وتشنج وهيستريا مؤذية للضعاف والشيوخ والنساء والأطفال. فمن يرى الهرج والمرج في منسك الجمرات ويطالع في وجوه بعض الحجيج وهم يرمون الجمار يخرج بيقين أن ثمة هستيريا تتحكم فيهم بما يتنافى مع وقار العبادة وطمأنينة الأداء. إنها محنة الطقوس التي يغيب فيها المعنى ويحضر الأداء الجاف. وحين قال الله تعالى (ليشهدوا منافع لهم) في موسم الحج فإن أكثر من معنى يحضر في مضمون تلك الآية؛ من التعارف وما يتصل به من معنى إنساني نبيل وصلت إليه البشرية بعد قرون طويلة، ومن الوحدة ومن التعاون وغير ذلك من آيات اللقاء بين جميع المسلمين على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأعراقهم ومناطقهم. ربما كانت بعض القيم الكبرى للإسلام تجسد تجلياتها في موسم الحج لتذكر المسلمين أن قابلية الإسلام لتعدد الأعراق هي من أهم قيمه الانسانية العابرة في معناها النبيل إلى جميع البشر، في هذا الزمن الذي أصبح انكفاء الناس على طوائفهم لا يتسع حتى للدين الواحد. وفي هذا المعنى تنعكس التحيزات الرمزية في موسم الحج عبر الشعارات والرايات والهتافات لتؤكد لنا باستمرار بأن المعاني التي هدفت إليها هذه الشعيرة العظيمة في تأويلها الحقيقي ودلالتها الكبرى لا تزال غائبة وأن السبب الأكبر في غياب هو ذلك الداء الدفين: التخلف الذي لا يجعل صاحبه عاجزا عن التصالح مع القيم الإنسانية المعاصرة فحسب؛ بل وعاجزا عن معرفة مالديه من قيم إنسانية كبرى انطمست معالمها تحت ركام التخلف والجهل والطائفية والعصبية.
[email protected]