ظل الخطاب الديني في العقود القليلة الماضية محور اهتمام للكثير من الكتابات والدراسات في الشرق الغرب مع بدايات ما سمي بالصحوة الإسلامية عند نهاية السبعينات. ولقد واكب هذا الخطاب تحولات كثيرة شهدتها المنطقة العربية والإسلامية وأثر وتأثر بالكثير من الأحداث التي فعلت من نشاطه سواء لجهة الحراك السياسي الداخلي في البلدان العربية، أو لجهة الأحداث التي شهدت بروزا ملحوظا لفعالياته مثل أحداث الغزو السوفيتي لأفغانستان في العام 1979حتى نهاية الثمانينات الميلادية. وكانت المملكة العربية السعودية تشهد نشاطا ملحوظا لتيارات الصحوة الإسلامية التي انتهجت نهجا سلفيا على منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب. غير أن الخطاب الديني في السعودية تلاقح أيضا مع بعض نماذج الخطاب الحركي الإسلامي بفعل تأثير الكثيرين من رموز حركة الإخوان المسلمين الذين هاجرو للسعودية منذ أواخر الستينات الميلادية على هامش الاستقطاب الذي كان بين النظامين السعودي والمصري في الستينات من ناحية، ونتيجة للضربات التي وجهها النظام الناصري لحركة الإخوان المسلمين من ناحية ثانية.
كانت الآيدلوجيا الدينية القائمة على تأويل معين للنصوص الشرعية هي العامل الأبرز الذي شكل توجهات الصحوة في السعودية. ولقد كان هناك نتيجة لهذه الآيدلوجيا تصورات مثالية للواقع الذي كان يتحرك بعيدا عن رؤى الصحوة الدينية كما أن أسلوب الخطابة ـ الذي ربما كان الآلية الوحيدة لتوصيل الأفكار وهو بطبيعة الحال لا يمكن أن يكون منهجا حصريا للتعبير عن الفكر ـ أصبح لدى الكثيرين بمثابة الأسلوب الجاذب للتأثير على الآخرين. وصاحب ذلك أيضا طريقة سهلة لتأليف الكتيبات الصغيرة بلغة مسلوقة انتشرت بين الناس. وكان واضحا أن هذه الطريقة للتعاطي مع الواقع المحلي والإقليمي والدولي إنما هي في الحقيقة انعكاسا لتصورات بسيطة تملك رؤية طوباوية للعالم وللواقع من ناحية، وتحيل على بساطة في التجربة المنغلقة والمحدودة بحدود واقعها الخاص من ناحية أخرى. وكان نتيجة لهذه التحولات في خطاب الصحوة أن شاع تماه آيدلوجي خادع نشأت عنه مقايسة موهومة بين هذه الحالة من التأويل وبين افتراض أنها حالة مطابقة لحياة الجيل الأول في الإسلام (وهنا تحديدا تسقط الحدود بفعل الآيدلوجيا بين الرؤية التأويلية القاصرة و المتوهمة لدى تيار الصحوة وبين الفهم المعرفي الحقيقي للإسلام في فهم الجيل الأول) ولقد نشأ هذا الوهم في الأساس من الفهم التأويلي الاحتكاري للإسلام، وهو فهم بطبيعته المؤدلجة يقوم على أفضلية حصرية نافية للتأويلات الأخرى أو مقللة من شأنها. ولم يدر بخلد الجميع آنذاك أن مثل هذه الطريقة في التأويل الآيدلوجي للنص من شأنها أن تفضي إلى حالة إقصائية للآخر القريب فضلا عن المخالف، كما من طبيعتها أن تنطوي على خاصية انشقاقية في بنية الفهم ذاته. وهو ما حدث لاحقا بفعل تداعيات العديد من الأحداث التي تسارعت في المنطقة منذ حرب الخليج الثانية إلى أحداث 11 سبتمبر الإرهابية في نيويورك، إلى الغزو الأمريكي لأفغانستان، وسقوط بغداد في العام 2003. وما شاع بعد ذلك من ظهور الحملات الإعلامية العالمية ضد الإسلام وربطه بالإرهاب وظاهرة الاسلاموفوبيا في أوربا. هكذا بفعل هذه الأحداث وتداعياتها وبفعل ثورة الانفوميديا (الاتصالات والمعلومات) التي صاحبت كل تلك التحولات، نشأت بلبلة في ذلك الفهم الصحوي داخل السعودية كشفت عن ذلك القناع الآيدلوجي. وحدثت بعض المراجعات لتعيد قراءة ذلك الفهم الذي تكشف عن ثغرات كبيرة نتيجة لغياب رؤية معرفية متماسكة، ودراسة موضوعية للواقع. لقد ذهبت تلك التصورات الافتراضية لذلك الفهم أدراج الرياح على وقع أحداث الواقع المحلي والإقليمي والدولي المريرة وإكراهاته التي كانت بحاجة إلى تفسيرات معرفية متماسكة بدلا من ذلك الفهم المثالي. وهكذا حين انعكست اكراهات الواقع الجديد على منطقة الشرق الأوسط برمتها كان واضحا للكثيرين أن ثمة حاجة ضرورية إلى إعادة النظر في تعريفات أخرى لفهم الإسلام والدعوة الإسلامية بعيدا عن الآيدلوجيا والأوهام، وأقرب إلى المعرفة والموضوعية لا لنفي الشبهات التي شاعت عن الاسلام وعلاقته بالإرهاب في الميديا العالمية في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001 فحسب، بل وكذلك لمحاولة إعادة النظر المعرفي بالإسلام لمقاربة طبيعته وحقيقته واختبار نتائج ذلك الفهم الجديد في إعادة فحص وقراءة الخطاب السابق وما انطوى عليه من تمثلات آيدلوجية كانت لها نتائج سلبية على الواقع. بطبيعة الحال لا يمكننا القول أن الخطاب المعرفي المتماسك للإسلام وطبيعة علاقاته بقضايا العالم الحديث قد سجل فرزا ملحوظا في سوق التأويلات الايدلوجية الاسلاموية الغالبة بين الجماعات والحركات المعاصرة، ولكن يمكننا القول أن تداعيات تلك الأحداث على الواقع في منطقة الشرق الأوسط ولا سيما السعودية قد أفضت إلى هزات في الخطاب الصحوي بالسعودية ونتجت عنها تحولات في رؤية بعض رموز تلك الصحوة. ولعل في خطاب الشيخ سلمان العودة والمتغيرات الايجابية التي انعكست في رؤيته ما يفسر لنا بعض تحولات الخطاب الديني في السعودية. فمن يتابع برنامج (حجر الزاوية) اليومي على قناة الـ mbc الذي يقدم فيه الشيخ سلمان العودة تعليقات على كثير من القضايا الإسلامية الراهنة لا يخطئ تلك اللغة التي تطرح مناقشات هادئة لمقاربة القضايا الإسلامية. وهي وإن كانت تعليقات ذات طبيعة عامة إلا أنها تعكس تلك المتغيرات التي دلت على اختلاف واضح مع بعض رموز الخطاب الديني في السعودية. ومن أهم الملاحظات على تعليقات العودة في ذلك البرنامج: التنبيه إلى سعة الاسلام في قبوله لتصورات عديدة في الفهم دون مصادرة. وكذلك إعادة النظر في العلاقة مع الآخر الوطني المختلف في الرؤية والفكر، بالإضافة إلى التأكيد على قراءة عقلانية للواقع والتأمل في علاقاته المعقدة لتحرير فهم يستوعب الاختلاف في نقاش الأفكار. وبطبيعة الحال فإن هذه التحولات في خطاب الشيخ سلمان العودة هي بمثابة خطوط عريضة، ومؤشرات عامة قد تفتح آفاقا للحوار والعقلانية والتواصل مع مختلف الخطابات الفكرية التي تشهد نقاشا مفتوحا في الصحافة والإعلام بالسعودية.
[email protected]