ارتبطت الحداثة في الذاكرة العربية بأوربا، ولقد ظل اسم أوربا في هذه الذاكرة رديفا للكثير من المعاني؛ منها ماهو رومانسي حالم، ومنها ماهو قاس وقاتم. لكن في كل الأحوال ظلت أوربا باستمرار مصدرا للحب والكره والعلم والقوة والتقدم. بيد أن فكرة الحداثة ماتزال في المخيال العربي ترتبط بتلك الجوانب المتصلة بالتقدم والفنون والسلوك الحضاري الرقيق والرفاهية وما إلى ذلك. وأصبح لفظ حداثي عند العرب مرادفا للشخص العاشق للحرية والوعي والتماهي الحميم مع معطيات الحياة الحديثة. هذه صورة نمطية في ذلك المخيال روجتها بداية حالات وعي تمثلتها النخب الثقافية العربية في الربع الأول من القرن العشرين لا سيما مع ظهور معنى المثقف العصري الذي ظهر بصورة جذابة في مصر كطه حسين والعقاد ولطفي السيد وأحمد أمين وغيرهم. لكن مع ذلك ظل الشرخ المتصل بطريقة التعاطي مع مصدر الحداثة (الغرب) في الذاكرة العربية عسيرا على الالتئام. ومن خلال هذا الشرخ تنعكس التمثلات المتناقضة لردود فعل العرب إزاء الحداثة. وبطريقة تصل فيها تلك التمثلات إلى أقاصٍ متناهية. فماحدث مثلا في 11 سبتمبر بنيويورك كان وجها قاسيا وانعكاسا إرهابيا متطرفا، لكنه يظل مع ذلك إحدى صور العلاقة مع الغرب في ذهنية شريحة متطرفة في هذا الجزء من العالم المسمى عربيا. والحال أن التعاطي مع الحداثة الغربية عبر ذلك الشرخ لا يؤدي إلا إلى المزيد من التناقضات، ويحيل على أزمة كينونة يعيشها العرب منذ أكثر من مائتي سنة أي منذ الحملة الفرنسية على مصر حيال التعاطي مع الحداثة.ذلك أن كثيرين في هذه المنطقة ينظرون إلى الغرب وإلى حداثته نظرة تجريدية من ناحية وغير تاريخية من ناحية ثانية. ومن خلال هذه النظرة غير العقلانية تفيض تلك التناقضات التي لا تؤدي إلا إلى المزيد من التشويش والتخبط والاضطراب. وإذا كان الفن يسمح عادة بحل تناقضات تلك العلاقة المعطوبة بين العرب ومصدر الحداثة؛ كما فعل الطيب صالح في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال)، وكما فعل من قبل يحي حقي في (قنديل أم هاشم) وغيرهما؛ فإن حالات الإبداع هنا تنعكس كمجاز رمزي متخيل وشديد الذاتية ولا يمكن بطبيعتها الفردية تلك أن تستوي معيارا لرؤية ما حيال ذلك الغرب. ذلك أن صلابة الواقع والحيثيات القاسية على أرضه تعيد باستمرار مفاعيل تلك العلاقة المشروحة بين الغرب والعرب في موضوع الحداثة. ولعل من أهم المؤثرات التي أدت إلى ذلك الشرخ : ارتباط الحداثة الأداتية عبر آلياتها ووسائلها التكنولوجية بالعنف الاستعماري الذي استيقظت على وقعه هذه المنطقة من ثباتها التاريخي في مرحلة المد الاستعماري وما صاحبه من حركات مقاومة وتحرير في المنطقة العربية. لكن المفارقة كانت تتمثل دائما في العجز عن الفرز المعرفي بين الغرب كمصدر للحداثة والتنوير الذي أنتج العصور الحديثة، وبين الغرب كمصدر للامبريالية والتوسع الاستعماري. وبين هذين الاحساسين ينوس الوعي العربي بالحداثة دون أن يكون قادرا على خلق احساس يتجاوز تلك المفارقة ويؤسس للحظة حداثية خاصة تحدق في ذاتها دون أن تشيح النظر عن مصدر تلك الحداثة. سيمر زمن طويل يتجدد فيه ذلك التصور المشروخ في كل التحولات النسقية التي يتمثلها العرب المعاصرون مع الحداثة. و باستمرار سنرى تمثلات حداثوية وليبرالية ساذجة لدى فئات عديدة تربط وعيها بالحداثة بتلك الأشكال والصور من أنماط الحياة الغربية في الذوق والتصرف والإحساس إلى درجة ترسخ في وعي الكثيرين إحساسا ناعما ورقيقا كشرط شكلي متوهم للعلاقة مع الحداثة؛ وهو إحساس لا تعكره إلا تلك الصورة الأخرى للحداثة القائمة على القهر والاستغلال والهيمنة التي يسيطر بها الغرب على عالمنا العربي من أقصاه إلى اقصاه. بيد أن الصورة الأنثوية للحداثة ربما كانت هي الأكثر إغراء لا لتغذية ذلك الإحساس الذي يتماهى معها، بل وأيضا لذلك الإحساس الذي يتناقض معها؛ فقد ظن إرهابيو القاعدة بحسب تصوراتهم المتخلفة أن ضرب الولايات المتحدة عبر تفجير برجي مركز التجارة في نيويورك سيؤدي إلى الفزع والخوف في نفوس (النصارى) الذين يحبون الحياة الدنيا. لكن ما حدث بعد ذلك من استباحة وإذلال لهذه المنطقة عبر جيوش الولايات المتحدة كان أقسى من كل تلك التصورات المريضة في ذهن الإرهابيين. ولهذا ستظل تلك النظرة التجريدية وغير التاريخية للحداثة سواء في تصورات الحالمين السذج من دعاة الحداثة الشكلانية أو لدى أصحاب أكثر التصورات تطرفا حيالها كتصورات متطرفي القاعدة؛ هي العائق الذي يمنع باستمرار رؤية عقلانية منضطبة ومنتجة لحداثة حقيقية في هذا الجزء من العالم المسمى عربيا. والحال أن أكثر ما يثير الاستغراب لدى بعض الفئات الاسلاموية والسلفية الساذجة في هذه المنطقة هو تلك المفارقة العجيبة ـ بحسب تصوراتهم ـ في : كيف أن مجتمعات منحلة تعم فيها الدياثة (من كلمة ديوث التي تعني الشخص الذي لا يغير على عرضه) تصبح لها تلك القوة الجبارة القاهرة التي تذل بها المسلمين وتقهرهم قهرا في العراق وأفغانستان وفلسطين ووو؟ !! دون أن ينتبه هؤلاء ـ بسحب رؤيتهم القاصرة ـ أن مفهوما كـ(العار) هو مفهوم يتمثله كل مجتمع بشري بحسب تصوراته الخاصة التي قد تختلف عن مجتمع آخر؛ فالعار الذي يعني الدياثة عندنا قد لا يعني شيئا لدى الغربيين، فيما يصبح (العار) لديهم مثلا علامة على كل من يعيش عالة على أبويه بعد أن تجاوز سن الـ 18 عاما؛ وهذا قد لا يعني لدينا شيئا. العار إذن موجود لديهم ولكنه في مكان آخر.
[email protected]