يطرح الأستاذ مأمون فندي في مقاله (هل تكسر القبيلة موجة الثورة) بالشرق الأوسط تحليلا يفضي إلى أن ما حدث في تونس ومصر ربما كان استثناء غير قابل للتحقق في المحيط العربي لاسيما بإزاء ما يجري حاليا في ليبيا واليمن، والخروج تبعا لذلك بتصورات تبدو متماسكة لوهلة أولى، لكن التأمل فيها يستدعي تساؤلات وحقائق ربما أغفلها الأستاذ مأمون في وارد حديثه عن الخلاف في بنية الدولة بين مصر وتونس من جهة، وليبيا واليمن من جهة أخرى. فالثورة ـ بحسب فندي ـ نجحت في مصر وتونس لأن الدولتين توفرتا على بنية عميقة لدولة تتشكل فيها علاقات المواطنين بعيدا عن الهويات الصغيرة والبدائية كالقبيلة والطائفة. ورغم صحة هذه الفكرة إلا أن حديث الأستاذ مأمون في جعل هذه الفكرة دلالة حصرية على النجاح السريع للثورة، يهمل حقائق أخرى في حال تلك والهويات الصغيرة وطبيعة علاقتها المركبة بالثورة. وحين يعزو فندي عدم النجاح السريع للثورة الليبية أو حتى احتمال فشلها إلى محض وجود هويات أولية مثل القبيلة أو الطائفة يغفل أن ثمة تباينا واختلافا في طريقة تعبير تلك الوحدات الاجتماعية عن نفسها بين مكان إلى مكان و زمان وزمان. فتلك القبائل لم تتحرك بسبب كونها قبائل بل بسبب الرغبة في التحرر من حكم القذافي. والحال أن مجرد التكوينات القبلية لا تنطوي بالضرورة على القابلية لتصنيفات مفترضة أو جاهزة حيال سلبيات القبيلة أو الطائفة بقدر أهمية إدراك ضرورة السياق الذي تندرج فيه تلك التحركات عالميا وإقليميا ومحليا. فالقبائل في ليبيا مثلا أفضت تحركاتها إلى مجلس وطني تم تكوينه نتيجة لانتفاضة الشعب الليبي، وهناك تصور يصدر عن الشعب الليبي بمختلف قبائله عن ضرورة وحدة ليبيا وعاصمتها وعن ضرورة الديمقراطية والعدالة والكرامة، الأمر الذي يبدو معه من الصعوبة جعل حراك الشعب الليبي مرهونا عبر أنساق تصدر بالضرورة عن المعنى السلبي للقبيلة. ويبدو حديث الأستاذ فندي حيال الاختلاف والتباين بين مصر وتونس من جهة وليبيا واليمن من جهة، نافيا لمشتركات واضحة تندرج فيها الحالة العربية في صورتها الأبرز (التخلف) وإن بتنويعات مختلفة لا تلغي حقيقته. و طبيعة مثل هذه التصورات لا يمكن أن تنطوي على تأويل موضوعي في كل مفرداتها عند وارد المقارنة والسبر وبالتالي ربما لا يمكن أن تملك تأويلها المعرفي المتماسك. فمثلا حين يستدل فندي على أطروحته بالحال السودانية كدلالة على عجز التناقضات الدينية واللغوية والعرقية عن تكوين الدولة والاستعاضة عنها بالتقسيم نتيجة لإنسداد تلك الهويات الصغيرة وتصوراتها النسقية، يبدو لنا ضعف الأطروحة عندما ندرك أن انقسام السودان لم يكن نتيجة للاختلاف القبلي بين مكوناته ـ فمازال السودان الشمالي يتوفر على اختلاف قبلي وعرقي ولغوي حتى بعد انفصال الجنوب ـ بل كان في الأصل رد فعل على رؤية سياسوية تحمل آيدلوجيا دينية للحكومة في الشمال، وهي آيدلوجيا بطبيعتها تلك تنطوي على قابلية التقسيم والانشطار حتى في بنية التنظيم الحاكم نفسه ـ وقد حدث ذلك في انقسام العام 1999 بين الترابي والبشير ـ وبالتالي فإن الانقسام هنا لا يأتي كتعويض للعجز عن انجاز الدولة بسبب الانقسامات القبلية والعرقية، بل يأتي لأسباب سياسية زمنية وصراع إرادات كان من شأنه أن جعل كل السودان مهمشا وليس الجنوب فحسب. لا يعني ذلك بالضرورة تعميم حالة مستنسخة في طريقة اشتغال الثورات بين دولة عربية وأخرى، فالتعميم أيضا فخ آخر للرؤى النسقية في تحليل ما جرى ويجري في هذا الجزء من العالم المسمى عربيا، وإنما نقصد أن ما ذهب إليه مأمون فندي من عدم قدرة الشعب الليبي والشعب اليمني على تحقيق انجاز التغيير أو استحالته حتى، إلا بعد زمن طويل لأسباب تتعلق بمحض التكوينات والهويات النسقية كالقبيلة والطائفة هو حديث يوحي كما لو أن ماجرى في كل من مصر وتونس يمثل استثناء ثوريا يقتضي بالضرورة حالة خاصة يصبح من المستحيل تحقيقها في كل من اليمن وليبيا. ثمة الكثير من الاحتمالات التي جعلت منها ثورة الأنفوميديا وقائع متحققة في زمن دلت الكثير من معطياته الظاهرة على أفول عصر الثورات، بل واستحالة تحققها لجهة التقابل الذي يوشك أن يكون متكافئا بين قدرة القمع الهائلة في أدوات العنف التقني الذي توفرها الدولة البوليسية الحديثة ـ كما في مصر وتونس وبقية الدول العربية من ناحية ـ وبين قوة التواصل والنقل الرقمي السريع للأحداث والتحولات والمفاهيم التي أنتجتها ثورة الاتصالات والمعلومات من ناحية أخرى. والحال أن الذي ساعد في تحقيق ثورة 25 يناير بقوة هائلة هو الحدث الإعلامي التقني الذي رافق هذه الثورة عبر صور القنوات الإخبارية وجعل منها (ثورة على الهواء) الأمر الذي يجعل من استثمار الحدث الإعلامي وتقنيات الإنترنت التواصلية في كل من اليمن وليبيا عنصرا مهما في تحقيق التغيير. وبالعودة للسودان قد لا يعرف كثيرون أن الشعب السوداني أسقط في كل من عامي 1964 و 1985 نظامين عسكريين بانتفاضتين شعبيتين في زمن لم تكن فيه الشعوب العربية في وارد التغيير بمثل الطريقة السودانية. صحيح أن الانتفاضتين في النهاية لم تمنعا من عودة الانقلابات ـ لأسباب كثيرة ـ إلا أن وقوع الحدث في حد ذاته : خروج الشعب إلى الشوارع وإجبار النظام على الرحيل لا تعين على إدراكه تصورات مأمون فندي المفترضة عن السودان بسبب وجود اختلاف قبلي وعرقي مانع بمحض طبيعته من تحقيق الثورة في الدولة. وبالجملة فإن مصر وتونس ليستا استثناء عن الواقع المتخلف الذي ينتظم هذه المنطقة لأن أسباب الاستبداد التاريخية مازالت قابعة في قاع التصورات الفكرية والرمزية للعلاقات الرأسية والأفقية في بنية المجتمع التي تعيش صراعا باتجاه إيجابي في كل من تونس ومصر ؛ أدى إليه في الأولى ظهور طبقة وسطى حقيقية وناجزة بالأساس، وفي الثانية هوية وطنية تاريخية لمصر تملك سلطتها الجبارة في نفوس المصريين مع بقايا متآكلة من الطبقة الوسطى.
[email protected]