quot;الدولة في لبنان لفظة هزليّةquot; (أنسي الحاج)


مع اندلاع ثورتي تونس ومصر، تكشفت الكثير من الأساطير في المنطقة العربية؛ أساطير عتيدة ربما كانت أشبه بالحقائق في غياب الثورة العربية، لكنها تكشفت في العراء وتبخرت تلك الهالات التي نسجت حولها على مدى عقود طويلة.
ذلك أن ما كان مانعا من انكشاف تلك الأساطير بداية هو التخلف الذي ضرب هذه المنطقة لقرون عديدة، وأنتج أشكالا متعددة لطريقة اشتغاله في كل التعبيرات التي اختلفت فيما بينها، فيما ظلت بمجموعها دلالة واضحة على الوجوه والأقنعة المتصلة بالتخلف بصورة أو أخرى.
بداية لا نقصد بالأساطير هنا نزع معنى الوجود الدال على الحالات التي نحن بصدد الحديث عنها، بقدر ما نعني أن هذه الحالات تم تصويرها وتهويلها بفعل جهات عديدة كما لو أنها حالات حقيقية يجب تصديق دلالتها كما يراد لها من قبل تلك الجهات، لا كما هي في حقيقتها.
أولى هذه الأساطير التي تبخرت هي أسطورة تنظيم quot; القاعدة quot; ذلك أن هذا التنظيم الذي هو أسوأ تأويل أصولي أنتجه التخلف لمفهوم الدين ظل، تعبيرا حقيقيا عن الواقع المأزوم في المنطقة العربية، واقع القمع والخوف والموت والصمت. فهو تنظيم لا يزدهر إلا في اللحظات الشديدة الظلمة في هذا الجزء من العالم المسمى عربيا؛ لحظات وصفها المفكر السوري برهان غليون ذات مرة، بأن أسباب الموت فيها أصبحت أهم من أسباب الحياة، ومن ثم فإن التأويل القيامي للصراع الديني القائم على تبسيط العالم إلى فسطاطين بحسب المخيلة الفقيرة والمظلمة لأسامة بن لادن أصبح هو الدليل الوحيد لنموذج المقاومة ضد الدكتاتوريات التي جثمت على شعوب هذه المنطقة. ولأن القاعدة تنظيم لا يعرف إلا القتل المتنقل وسيلةً بدائية وعدمية وحيدة في مواجهة تلك الأنظمة، والولايات المتحدة؛ فإن طبيعته الشبحية جعلت من العالم كله ميدانا للموت، لاسيما حينما واجه على الطرف الآخر عصابة من المحافظين الجدد في إدارة الرئيس جورج بوش الابن الذي كان ينتظر معركة نهاية الأزمنة (هرمجدون) مع بن لادن بحسب خياله المريض. وهكذا حينما تولت الشعوب الإمساك بمصيرها السياسي، ودخلت إلى متن الأحداث تلاشت القاعدة، وغاب رموزها مثل خفافيش الظلام.
ولأن القاعدة هي أسوأ ما ينبذه العالم من تأويل منحط للدين وتعميم بشع للقتل على الهوية، لذا نجد دكتاتوريين من طينة ألقذافي وبشار الأسد يجدون فيها مكبا لاتهاماتهم حيال خصومهم، فهي الشر المحض الذي يتبرأ منه عتاة الديكتاتوريين بسبب ما فيها من قبح أصلي لن يجد له تأويلا سوى النبذ المطلق والكراهية والاحتقار بسبب القتل على الهوية.
ثمة أسطورة أخرى ظلت تطفو على الواقع العربي وتنعكس عليه بوصفها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة العربية، بينما كشفت الثورة في كل من تونس ومصر حقيقة تلك الأسطورة؛ إنها أسطورة ديمقراطية لبنان. ففيما كان الوهم يتغذي من الأسطورة، ويجد تسويقه في المنطقة العربية، كان هناك ما هو أخطر بكثير من ذلك البريق، أي تلك الطائفية التي حولت لبنان إلى حالة من التذرير الشامل لهوية الشعب؛ طائفية قال عنها الشاعر اللبناني الكبير أنسي الحاج : (الطائفيّة هي انفرادُ كلّ طائفةٍ برعاياها والتحكّم في مصائرهم ولادةً ودراسةً ومواطَنَةً وتوظيفاً وزواجاً وإنجاباً وطلاقاً وموتاً. الدولة ومؤسساتها ليست أكثر من ساهرٍ على حسن سير طغيان الطوائف. الدولة في لبنان أسيرة الطوائف وليس العكس.) وهكذا ستظل طوائف لبنان ربما آخر شعوب المنطقة العربية التي يمكن أن تحدث تحولات جذرية حيال تعبيراتها كشعب واحد، لا قياسا على مصر وتونس، بل قياسا على اليمن، بسبب تلك الطائفية المستحكمة والتي يتم تسويقها إلى جانب الديمقراطية والحداثة والتنوير والانفتاح كهوية متماسكة تماما ومتعالية في الوقت نفسه على تلك التقليعات الحداثية الخادعة.
وبمعنى ما فإن التخلف هنا أيضا سيكشف عن قناعه وراء تلك التقليعات ليثبت لنا مرة أخرى أن انعكاسه ذاك هو الدليل الحي على المأزق. فحين تتكشف الديمقراطية اللبنانية تعبيرا عن انسداد نسقي مزمن، يمكننا أن ندرك عند ذلك معنى الحيوية التي يضخها الشعب اليمني حيال تبنيه إعادة تأسيس هوية وطنية تأخذ معناها ألحصري من التوق إلى الحرية وتجاوز الهويات الصغيرة والسلاح الوافر دون الانجرار إلى حروب أهلية ـ حتى الآن على الأقل ـ
ثمة أسطورة أخرى ظلت في وعي السودانيين بحسبانهم شعبا أنجز ثورتين شعبيتين في أكتوبر 1964، وابريل 1985 وأسقط نظامين عسكريين؛ أسطورة خلقت في أوساط السودانيين شعورا زائفا بحيازة استثناء خاص، فيما الواقع هو تماما بخلاف ذلك. وربما سيكون الشعب السوداني في ذيل الشعوب التي ستنخرط في مشروع الثورات التي تعم المنطقة لأسباب يطول الخوض فيها.
ذلك أن ما ظنه السودانيون ثورة لم يكن كذلك، بل كان حالة ثورية منعزلة عن صيرورة الثورات، فصيرورة الثورة هي التي تضمن إطرادها باستمرار نحو مراكمة انجازات إيجابية على رأسها تأسيس حصانة ثورية منيعة ضد عودة الاستبداد والديكتاتورية، وهذا ما فشل فيه السودانيون، إذ عادت الانقلابات العسكرية مرة أخرى بعد سنوات قليلة : انقلاب النميري 1969في أعقاب انتفاضة أكتوبر 1964 ثم انقلاب البشير 1989في إعقاب انتفاضة ابريل 1985
لقد كنست الثورة في تونس ومصر، وتداعياتها التي لا تزال تجري في ليبيا واليمن وسوريا، تلك الأساطير التي ظلت قارة كأوهام حيال الواقع المزيف، وحيال كل شعب عن نفسه.
واليوم إذ يختفي الحديث عن القاعدة في نشرات الأخبار والإعلام فإن أكثر من يموتون من الغيظ هم زعماؤها الذين طمست عنهم الشعوب العربية تلك الهالة الكاذبة من البريق الذي طالما صورهم أبطالا، فيما هم مجرمون وقتلة.
من ناحية أخرى غابت أخبار لبنان عن الساحة الإعلامية، وترك الناس الانشغال بطوائفه وقنواته التي تعيد انتاج الطائفية القروسطية عبر واجهات براقة تدعي الحرية والحداثة.
هكذا تختط الثورات العربية الجارية في كل من اليمن وليبيا وسوريا مسارات جديدة نحو الحرية، عبر تكوين هويات وطنية طازجة من رحم المعاناة والقمع والموت؛ هويات تقتلع في طريقها الكثير من البنيات المتخلفة كالقبيلة والطائفة والعصبية؛ في مسيرها نحو تأسيس لحظة تاريخية يقودها الشعب، فيما هو يكتشف معناه وجوهره من خلالها.
والحال أن التداعيات الجديدة لثورتي تونس ومصر التي ستنشأ في المنطقة العربية كصدى للحالة الثورية، تقليدا و استلهاما في الواقع العربي، ستنطوي بالضرورة على إدراك واع بالهشاشة الذاتية لتلك الأساطير التي تم تسويقها لعقود طويلة. إذ لا القاعدة بعنفها الأعمى وتأويلها الرث للدين يمكن أن تكون مغرية حتى لديكتاتوريين من أمثال القذافي، ولا الفراغ النسقي في الحالة اللبنانية الذي تمتنع معه بديهيات الوعي الديمقراطي يمكن أن يكون نموذجا للحرية والديمقراطية، ولا الإدعاء بتاريخ ثوري في الماضي يمكن أن يكون مجديا في زمن الثورات الحقيقية.
لا شك أن صيرورة ثورات المنطقة العربية لن تهدأ، وفي الطريق ستقوم الشعوب العربية بإعادة تعريف للكثير من البديهيات التي تم تصويرها كبديهيات مستقرة في مفردات ومفاهيم كثيرة من قبيل : الدولة والشعب والثورة والمواطنة، دون أن تكون تلك المفردات في يوم من الأيام ذات دلالة موضوعية على معناها في الحقيقة والواقع.
كما ستتكشف أساطير أخرى كلما تقدمت الشعوب العربية نحو الإمساك بمصيرها السياسي لتعرف أكثر : أن روح الشعب هي أعمق تعبير عن الأمة، وكم أن تلك الروح لا تعني شيئا البتة في غياب الحرية.
[email protected]