مؤخرا طرح الإخوان المسلمون فكرة الدولة المدنية كبديل مخفف عن مفهوم الدولة الإسلامية الذي أصبح يشكل عبئا، لاسيما في ضوء التجارب الدولتية الهشة والمأزومة في كل من أفغانستان والسودان والصومال وغزة.
ورغم الكلام الكثيف لبعض رموز الإخوان المسلمين المعتدلين كالأستاذ عبد المنعم أبو الفتوح والمستشار محمد سليم العوا، وما يطرحانه من تسويق لفكرة الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، في إطار ترشحهما للانتخابات المصرية القادمة، إلا أن المأزق والانسداد الآيدلوجي الذي يكتنف فكرة الدولة المدنية بحسب أدبيات الإخوان المسلمين والإسلاميين عامة لا يزال قائما.
ذلك أن الإشكالية التي تجعل من مفهوم الدولة الإسلامية مفهوما نسقيا وآيدلوجيا الآن وهنا، في هذا الجزء من العالم المسمى عربيا لا تكمن في إمكانية الحجاج النظري حول جدوى المفهوم، ولا في كونه مفهوما جدليا سابقا لأوانه، بل تكمن في الأساس في أن بنية التخلف التي تشتغل عبر شبكة معقدة من التصورات والمفاهيم تنهض بطبيعتها سقفا مانعا وموضوعيا من تحقق مفهوم الدولة الإسلامية فما يختزنه المسلمون المعاصرون عبر جماعاتهم المتعددة من فهوم تأويلية آيدلوجية للإسلام بصورة عامة، ولذلك المفهوم بصورة خاصة من ناحية، وما ينطوي عليه العالم الحديث من تعقيد في نظم إدراك وموازين قوى حداثية شكلت هذا العالم قبل أكثر من 4 قرون ؛ كل ذلك يجعل من الدعوة إلى الدولة الإسلامية بطريقة مجردة أي : الآن وهنا، لا مجرد وصفة انعزالية عن العالم فحسب، بل وكذلك طريقا ملكيا لحروب أهلية ستنبع بالأساس من مصاديق تلك الفهوم التأويلية وإنعكاسها على الواقع عبر تطبيقات عنيفة (لاحظنا عينة مخففة منها في أفعال السلفيين في مصر بعد الثورة)
والحال أن الإخوان المسلمين رغم إحساسهم المبهم بمفاعيل مثل تلك التطبيقات في حال قيام دولة إسلامية مستندة إلى تأويلات الإسلاميين ـ وهذا ماجعلهم مثلا يبتعدون عن ترشيح أي واحد منهم لرئاسة الجمهورية في الانتخابات المصرية ويقومون بفصل الأستاذ عبد المنعم أبو الفتوح ـ و كذلك فعلت حركة النهضة في تونس حين أعلن الشيخ راشد الغنوشي رفضه لترشيح أي أحد من حركته للانتخابات الرئاسية في تونس. رغم ذلك فإن البناء الأيدلوجي والتاريخي للإخوان المسلمين المتصل بتغلغل فكرة الدولة الإسلامية في أدبياتهم، لاسيما وان تكوين الجماعة كان في بداياته استئنافا لخط الخلافة الإسلامية عند تأسيسها في العام 1928 بعد 4 سنوات من إلغاءها في تركيا على يد كمال أتاتورك، هو بناء بطبيعته يجعل من تلك الآيدلوحيا العتيدة جزء من العقيدة التاريخية التي لا يمكن الانفكاك عنها بسهولة مهما كانت وجاهة الحجج المعرفية الناقضة لذلك المفهوم آيدلوجيًا.
هكذا عبر هذا الفهم الضبابي في الحالين يبقى الحال منصوبا في أطروحة الإخوان للدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، فتلك الأطروحة تبقى فقط للاستهلاك ولا يمكن أن تنطوي على بنية مفهومية ونظرية متماسكة، لا لناحية الواقع المعقد، ولا لناحية الحجاج المعرفي الموضوعي القائم على سبر أولويات وجوهر مفاهيم الإسلام المركزية.
ولهذا حين ينفصل شرط المعرفة في الأطروحة ويحل محله مفهوم آيدلوجي استنسابي ينبغي بالضرورة اختبار مقارنة ذلك المفهوم في ضوء مفاهيم مثيلة له تم تطبيقها في التجارب الدولتية الإسلاموية في كل من السودان وأفغانستان والصومال وغزة وحتى إيران ؛ وهي تجارب أفضت إلى أزمات وكوارث وحروب نبعت من تلك الشحنة الايدلوجية في المفهوم.
هكذا بين إحساس مبهم بورطة ما، في الترشح لرئاسة الجمهورية الآن وهنا، وبين العجز عن القطع مع الايدلوجيا التاريخية تبقى جماعة الإخوان المسلمين تراوح مكانها حيال الواقع الذي يتحرك من تسريع الأحداث المتجددة بعد ثورة 25 يناير دون القدرة على طرح مقاربات أكثر جرأة على المستوى النظري لمفهوم الدولة المدنية
ولئن أبدت الجماعة تماسكا حال دون ظهور الانشقاقات في بناءها التنظيمي طوال سنوات ما قبل ثورة 25 يناير، فمرد ذلك لا يعود إلى حيوية وغنى التجربة النظرية والمعرفية في أطروحاتها وأدبياتها، بل يعود بالأصل إلى مايفرضه تحدي النظام في أوضاع غير طبيعية ؛ ولهذا فإن ما تشهده الجماعة من انشقاقات اليوم على خلفية التعبيرات المختلفة بين منسوبيها عن العمل السياسي في ظل الواقع الجديد، هو ما يفسر لنا الطابع الأيدلوجي للفهم. فالاختلاف بين تلك الكتل في الجماعة يقوم بمجمله على بناء آيدلوجي للفهم يعكس الخاصية الانشقاقية المفضية إلى التذرر كنتيجة منطقية لأدلجة الفكر لا سيما الديني.
سيكون من العسير على الجماعة في المستقبل القريب الخروج من هذا المأزق حتى بعد ما يمكن أن يطالها من انشقاقات حزبية. ولابد من وقت طويل لبروز أطروحات نظرية جرئية ومتماسكة لتسجيل فرز معرفي وتحقيق نقلة نوعية في منهجها الفكري حيال إشكالات الواقع، وعلى رأسها مفهوم الدولة الإسلامية.
ربما يحسب كثيرون أن ما يتم تسويقه من مفهوم للدولة المدنية لدى بعض أفراد الجماعة هو بمثابة مثيل عربي للتجربة التركية التي يخوضها حزب العدالة في تركيا، لكن في الحقيقة ثمة خطأ كبير في ذلك الحسبان.
والفرق في نظرنا يعود بالأساس إلى أن التجربة التركية جعلت من العلمانية سقفا حاكما لحراكها السياسي، فيما جعلت من الديمقراطية وسيلة لتحقيق بعض مكاسبها في الفضاء العام كالحجاب وبعض الأنشطة الإسلامية عبر الاحتكام إلى الاقتراع.

[email protected]