من يتأمل خطابات الرئيس اليمني علي عبد الله صالح وعباراته التي يرسلها بغير خطام ولا زمام (كعبارات المرحوم يونس شلبي في مدرسة المشاغبين) يتعجب من تلك العشوائية التي يمارس من خلالها ذلك الرئيس تناقضاته.
فمنذ أن ابتلاه الله بمساجلات كلامية أسبوعية مع شباب الثورة، كانت تناقضات الرئيس صالح حتى في عناوين المظاهرات المضادة التي يخطب فيها أيام الجمع على الآلاف من أبناء القبائل المحتشدة أمامه كذوات جمعية، ليوهم المراقبين بأنه يملك أنصارا، فيما كان الرئيس يلتف على ولاء أبناء القبائل من خلال إرضاء زعمائهم ومشايخهم بالريالات والدولارات.
تحت إحدى عناوين تلك المظاهرات التي أطلق الرئيس عليها (جمعة التسامح) كان كلامه تعبيرا نقيضا لفكرة التسامح، إذ وصف المتظاهرين والثوار بأنهم قطاع طرق وأتباع القاعدة وما إلى ذلك من كلمات لا تصلح لذلك العنوان.
وذات مرة أطلق على إحدى عناوين مظاهراته المضادة (جمعة الوحدة الوطنية) وكال فيها كلاما يعبر عن كل شيء، وعن لاشيء في نفس الوقت،دون أن يكون دالا إلا على الفرقة والشتات!؟
عشوائية الرئيس لا تنتبه إلى ذلك التناقض، ليس لأن الرئيس مهتم أصلا بدقة عناوين مظاهرات تلك الجمع، وإنما لأن الرئيس علي عبد الله صالح يريد أن يملأ فمه بالكلام العشوائي، حيث لا يعنيه ماذا يقول، بل المهم عنده هو الخروج والرد وحشد الأنصار أسبوعيا كيف ما كان الكلام. فالرئيس الذي طالما نطق اسم رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق (آرئيل شارون) ناعتا إياه دائما بـ( إيلي شارون) متخففا من ذلك الثقل، ظل باستمرار يستسهل الكلام كيفما أتفق.
ذات مرة ذكر الرئيس صالح فجأة عبارة (الفوضى الخلاقة) في سياق حديث له مع المذيعة منتهى الرمحي بقناة العربية، وقصد منها ما يجري ضده من حراك ثوري في ميادين المدن اليمنية، دون أن يدرك بطبيعة الحال أنه بعبارته تلك خرج عن سياق التجريح الذي أراده من تلك العبارة إلى معنى إيجابي انزلق فجأة على لسانه بتلك الكلمة. وبالجملة فإن الرئيس علي عبد الله صالح ظل رغم كل تلك المجازفات الكلامية يخرج إلى الناس ويتحدث بخطابات مجوفة من هنا وهناك ليعبر باي وسيلة عن كلام القوة، لا قوة الكلام. حتى بلغ به التعبير إلى حد تكرار عبارة شعبوية مثل عبارة (فاتكم القطار). وهي عبارة تحيل في دلالتها النفسية على سباق العقل الباطن للرئيس الذي يريد أن يوحي بأن تمسكه بالسلطة أكبر من أن تنال منه تلك الثورة الشعبية، أو ربما اراد الرئيس أيضا أن الوقت تأخر على شباب الثورة اليمنية قياسا بالوقت الذي أنجز فيه شباب الثورة المصرية ثورتهم! دون أن يعير بالا للمعجزات الصغيرة التي حققها الشعب اليمني في ظل هذا الواقع المحتقن ؛ من تعبير سلمي رفض الانجرار إلى الحرب، برغم وجود شروط ممكنة الاستثمار في الحرب كالقبلية ووفرة السلاح.
بيد أن خطورة العشوائية، لا تكمن في الكلام فحسب ؛ فإذا كان الكلام في معنى آخر هو دلالة مضطردة منعكسة على التفكير المصاحب له، فإن انتقال الرئيس اليمني بتلك العشوائية إلى حيز الفعل دل تماما على الاحتمالات الخطيرة التي يمكن أن ينجر إليها اليمن بتلك الألعاب العشوائية المنتقلة من الكلام إلى الواقع.
هكذا أطلق علي عبد الله صالح يد تنظيم عشوائي (تنظيم القاعدة) لاحتلال مدينة (زنجبار) ليعيد إنتاج تلك الخطوة الغبية التي سبقه إليها من قبل الرئيس المخلوع حسني مبارك، والعقيد الليبي المترنح نحو السقوط، بحثا عن مقايضة متوهمة بين الأمن في ظل حكمه وبين الفوضى برحيله، دون أن يدري صالح أن مثل هذه الخطوات العشوائية ستعجل برحيله بأسرع مما يتوقع
وحين بدأت قوات صالح هجومها العشوائي بإطلاق النيران الحية على المعتصمين بساحة الحرية في تعز، وكذلك إطلاق نيرانها على منزل الشيخ صادق الأحمر، والمنازل المجاورة له، كان ذلك يعكس مفارقة تدل على غباء النظام اليمني ؛ فإذ يظن علي عبد الله صالح أن مثل تلك الخطوات العشوائية ستجر اليمن إلى حرب أهلية يغفل أن الانجرار إلى الحرب الأهلية في ظل حكمه ربما يكون غير ممكن لسبب واحد وبسيط هو : أن مجرد وجوده في السلطة وفساده الطويل هو الأمر الوحيد الذي يجعل من الشعب اليمني موحدا ضده، ومادام هدف الشعب اليمني أصبح واضحا ومجسدا في نظام علي عبد الله صالح، فإن كل الإجراءات التي يظنها الرئيس سببا لنشوب حرب أهلية ستطحن الحب في طاحونة الشعب اليمني ولصالحه. وهذه الأفعال العشوائية هي بمثابة التأويل العميق لنفاذ صبر القوة العارية حين تواجه بمنطق العقل والسلم ؛ إنها انتقال سريع من الكلام المجوف إلى الفعل العشوائي للخروج من تلك الورطة التي تورط فيها صالح.
وهكذا حين يضيق الخناق على الوحش في زاوية محصورة فإن تصرفه الغريزي المباشر هو التكشير عن أنيابه ومحاولة الخروج من تلك الزاوية عبر الهجوم ؛ هذا تماما ما يحدث الآن للنظام اليمني.
وأفضل طوق نجاة يمكن أن يهدى لعلي عبد الله صالح ونظامه في هذا الوضع اليائس، هو عسكرة الثورة السلمية ؛ فالأصوات التي تنادي بعسكرة الثورة على خلفية القتل الذي يمارسه صالح ونظامه ضد الشعب اليمني، هي التي سترد الروح لهذا النظام الذي عجز عن التصدي لهذه الثورة بكل أساليب القوة العارية التي يجيدها ومن ثم فإن عسكرة الثورة ستعيد النظام إلى أساليب يعرفها وربما يتفوق عليها. وعندها ستكون هناك الكثير من الحجج التي يمكن أن يركن إليها النظام. ولهذا فإن على شباب الثورة اليمنية توخي الحذر الشديد و التمسك بسلمية الثورة في هذه الأوقات العصيبة أكثر من أي وقت مضى رغم ما يتعرضون له من قتل. بالطبع هذا لا يعني الاستسلام أمام نيران النظام، وإنما سيفتح الباب على مسيرات سلمية أخرى تتحرك بقوة إلى مواجهة النظام بالزحف السلمي نحو مراكز الدولة ومنشآتها حفاظا عليها ؛ تلك الدولة التي حسبها الرئيس علي عبد الله صالح تستحق الخطف تماما كرقائق (اللحوح)1 التي كان يخطفها من بائعات السوق حين صبيا، كما تقول بعض الروايات الشعبية عن سيرته الأولى.
[email protected]
1 اللحوح = أقراص رقيقة من الذرة الرفيعة، وتسمى أحيانا بالكسرة الحبشية.