في نهاية الأسبوع الماضي، و بعد أكثر من عشرين عاما، زار الدكتور حسن الترابي القاهرة. وفي توقيت مفعم بالكثير من الدلالات، ظل حسن الترابي ضيفا مثيرا للجدل في القاهرة، على خلفية الكثير من الأحداث والوقائع.
وبمثل ابتسامته الغامضة يكتسب الترابي باستمرار زخما وأداء إعلاميا متميزا يستقطب الكثير من ردود الفعل عبر تصريحاته وندواته ولقاءاته الصحفية والتلفزيونية. وفي هذا الإطار يستثمر الترابي بلاغته للتعبير عن حالة يحسبها دائما كما لو أنها تعيد تسويقه بعيدا عن الماضي، فيما يشبه قطيعة يتوهمها مع ذلك الماضي.
هكذا يختبر الترابي بقدرته الذكية على تحريك الأحداث وخطف الأضواء، ما يشبه استعادة ما للوهج دون أن تكون له القدرة على الإصغاء لتناقضاته المكشوفة. فهو حين جاء إلى القاهرة صرح لوسائل الإعلام بأنه جاء لتقديم النصحية للحركة الإسلامية (والمقصود هنا جماعة الإخوان المسلمين) بعدم الوقوع في الأخطاء التي وقعت فيها الحركة الإسلامية في السودان، مما أدى لاحقا إلى الحروب والانقسام.
والحال أن الترابي حين يأتي إلى مصر، ويوعز من طرف خفي بإشارات حول نائب الرئيس السوداني علي عثمان محمد طه (الذي كان من المفترض إن يزور القاهرة في نفس توقيت زيارة الترابي، مما اضطره إلى تأجيلها) لا يعبر فقط في إشاراته المتصلة بتورط علي عثمان محمد طه في قضية محاولة اغتيال الرئيس المخلوع حسني مبارك في أديس أببا في العام 1995، بل كذلك يريد أن يمثل دور المفكر ملتبسا بالسياسي ليلعب على الدورين.
قدرة الترابي على استثمار الزخم الإعلامي جعلته أكثر حبورا ربما، ففي التوقيت الذي صادف موعد مجيئه إلى القاهرة بقليل، كانت رسالة مانديلا الشهيرة إلى الثوار في مصر وتونس قد سبقته ؛ حيث أشار مانديلا في رسالته إلى إحدى مقولات الترابي كمفكر، وهو أمر لا يخفى على الترابي الذي ربما وجد في إشارة مانديلا قيمة مضافة إلى ذاته كمفكر ظل طوال حياته مثيرا للجدل والغموض.
يبدو أن الترابي في زيارته للقاهرة حريصا على إبراز النسبة والتناسب بين حظر دخوله إلى مصر في السنوات العشرين الماضية من قبل نظام حسني مبارك، وبين سقوط ذلك النظام، الأمر الذي قد يجعل من حظوظ قبوله ـ مع الملابسات الأخرى ـ لهذه الزيارة في مصر أمرا ممكنا.
بيد أن رغبته في زيارة ميدان التحرير ومحاولته للحديث في ذلك الميدان، والتصريحات التي ذكرها بخصوص المجلس العسكري الانتقالي في مصر، ومحاولة الربط بينه وبين النظام العسكري الحاكم في السودان ؛ كل تلك المحاولات إذ تضع له هالة متوهمة قد تشفع بقبول أفكاره المتصلة بتلك التصريحات ؛ فإنها في الوقت نفسه تكشف عن الكم الهائل من التناقضات التي تنعكس باستمرار في مواقفه وتصريحاته.
ففي اللقاء الذي عقده مركز الأهرام للدراسات مع الترابي، أشار البعض إلى أن الترابي مهما أبدى من أفكار عن الحريات والثورة، سيظل في ذاكرة الكثيرين جزءا من المشكلة في السودان. وهذه إشارة ذكية ربما ينساها البعض. فالترابي الذي خرج من السلطة في السودان نتيجة إقصاء النظام له، لم يكن بمقدوره الخروج من ذلك النظام لو وجد سبيلا للبقاء فيه.
وهكذا يبدو الأمر متصلا بطبيعة النزعة النرجسية في طموحات الدكتور بعيدا عن الشرط الأخلاقي للمفكر.
ذلك أن الترابي هو الذي صمم نظام الإنقاذ في السودان ومن ثم لا يزال ذلك النظام في السودان يتحرك بالدفع الذاتي الذي صممه له الترابي أول مرة حتى وصل اليوم إلى نهاياته الكارثية.
والحال أن المؤاخذة الأخلاقية والمعرفية للترابي لا تكمن في رد نصائحه التي يحاول أن يسديها للمصريين فحسب، بل تكمن في الأصل في إدراكه العميق للإنسدادات التي سيقع عليها نظام الإنقاذ، بعد أكثر من عشرين عاما من بداية تنظيره لذلك النظام الانقلابي، فهو كمفكر لا يمكن أن يعذره أحد بجهله عن المآلات الكارثية للنظام الذي سمم حياة السودانيين مرة وإلى الأبد على مدى 21 عاما وأدى في النهاية إلى انقسام السودان.
يستثمر الترابي الذاكرة القصيرة للشعب السوداني، وربما كانت هذه سمة لشعوب هذه المنطقة، كما يعول على بلاغة يحسبها كافية لستر التناقضات، فيما الواقع يؤكد أن الترابي أصبح كرتا محروقا سواء لجهة مستقبل دوره السياسي في السودان أو لجهة احترامه كمفكر.
ربما يعوزنا اليوم استقراء قيمة أخلاقية متماسكة تناظر طروحات الترابي الفكرية حيال المواقف والمحطات التي أسس لها الترابي في الواقع السياسي السوداني، والتي اقترنت بالكثير من التناقضات والتقلبات، والميكيافلية، بل والمجازفات الخطيرة التي كشفت عن نرجسية مدمرة.
لايمكن للترابي أن يضيف جديدا للمصريين ؛ إذ ينسى وهو يطلق نصائحه أن ما حدث في مصر ينتمي لأزمنة جديدة، فذلك الزلزال الذي أحدثه المصريون بثورتهم لا يمكن أن يقف أمامه أحد دون إرادتهم، سواء أكان المجلس العسكري أم أي قوة أخرى.
الترابي الذي رفض أن يعتذر للشعب السوداني ـ حين طُلب منه ذات مرة على الهواء في إحدى المحطات الفضائية ـ عن المصير الذي وصل إليه السودان نتيجة لأفكاره الكارثية، ظل يتحجج بأن الاستغفار أهم من الاعتذار ناسيا أو متناسيا أن الاستغفار قد يكون سببا في العفو عن حق الله، أما حقوق البشر التي تستوجب اعتذارا أو محاكمة فهي مما لا يسقط بالتقادم والبلاغة، سيما وهو الفقيه الدستوري الذي يعرف الفرق بين حقوق الله وحقوق البشر أكثر من غيره ؟
إنه مأزق التخلف في هذه الأمة المنكوبة التي يمكن أن يظهر فيها أمثال الترابي ليختبر تناقضاته الفظيعة دون أن يطرف له جفن حيال ذلك الخراب المديد الذي ينتج عن تلك التناقضات في حياة الناس، ودون أن يعتذر عنه.
[email protected]