quot;السلطان، يغضب مثل الأطفال ويبطش كالجبارينquot; (معاوية بن أبي سفيان)

زمن معمر القذافي لم يكن زمنا واحدا. طوال حكمه تقريبا كان القذافي يعيش زمنا من صنع خياله المريض؛ زمن أشبه بأبدية دنيوية، إذا جاز القول. وزمن كهذا لا يعكس شعور الطاغية بالعالم ورؤيته له إلا من خلال شاشة سريالية باردة.
كان القذافي يختبر مجازفاته الدموية في حياة الآخرين من داخل ذلك الزمن. فعصاب العظمة الذي كان يستفزه باستمرار إلى تجريب الفانتازيا لم يتوقف عن تجديد تجارب الألم، وتفعيل نمط غرائبي يوحد التناقضات في عقل العقيد لتجد معناها عبر تحقيق رغباته مهما كانت مكلفة.
على هذا النحو المجنون كانت المآسي تتداعى في زمن العقيد، كان الورم الجنوني لا يجد أمامه سوى التمدد عبر المزيد من المغريات. وفي مثل هذه الحالات الذهانية لا تتكشف النرجسية عن الأذى فحسب، بل تتكشف أيضا عن انعدام مطلق الحس الإنساني حيال الآخرين، وهذا مايجعل من ذلك الزمن المتصل أبدية مفتوحة على حقل تجارب فظيع، كانت ضحاياه تتنوع باختلاف الأوهام التي كان العقيد يركبها ويبحث لها عن تحقق ضروري في الواقع يلم تناقضات أطرافها بأبشع الطرق تعبيرا عن المأساة.
أوغل العقيد في زمانه الفنتازي المحنط متكئا على الكثير من العاهات التي يسندها زمن آخر في هذا الجزء من العالم المسمى عربيا، أي زمن التخلف الذي عاشته هذه المنطقة. فقد كان التخلف الذي يمكننا تعريفه بأنه : العجز عن الحكم على الأشياء بطريقة مستقلة وإيجابية، يمنح جنون العقيد وقودا جديدا لتثمل أوهامه وجرائمه.
ذلك أن السلطة المطلقة حتى في أزمنة الوعي والحداثة، تجعل من صاحبها مسخا ذا طاقة تدميرية خطيرة، كما كان الحال مع هتلر (تلك الخرقة البشرية) فكيف إذا وجدت تلك السلطة زمنا كزمن القذافي.
إن زمن القذافي إذ يحنط الزمان الوجودي، يطل على العالم برؤية تمزج السخرية بالقسوة وتجعل من ذلك المزج الخطير قناعا لشخصية عصابية تنتج أفعالا خطيرة حيال الآخرين، فسخرية القذافي وفكاهته هي الوجه الآخر لتلك القسوة؛ إنها التشويش المدمر للأشياء في النظر إليها بتلك الطريقة الغريبة.
لهذا لم يكن للقذافي إلا أن ينتظر زمنا قاسيا ليخرج من زمانه المحنط. ونحسب أن الزمن الحقيقي الذي عاشه القذافي متصلا بالواقع الحي للحواس هي الساعات الأخيرة التي قضاها في تلك المجاري يوم 20 أكتوبر قبيل قتله. يفسر ذلك تلك الحجب السحرية التي وجدت معه. فالحجب السحرية هنا دالة على زمانه ذاك. وهي في دلالة أخرى تعكس عقليته البدائية، وتكشف عن نزوعه المستمر للعيش خارج الزمان الحقيقي... في هذا الزمن المدور والبارد كانت ليبيا مسرحا للغرائب. كانت الغرائب معنى مضافا للجرائم التي ظل يرتكبها العقيد.
فحين تورط القذافي في إسقاط طائرة البان أمريكان في أسكوتلندا عام 1988 تفتق ذهنه المريض عن طريقة مخيفة لتصفية المعارضين أخرجها العقيد كمناسبة وطنية وردا على من اتهموه في تلك الجريمة الإرهابية؛ فأمر سرا بشحن طائرة ليبية بالمعارضين ثم إسقاطها أمام ناظريه ليقنع الآخرين بأن إسقاط طائرة ليبية داخل ليبيا يصبح مساويا لإسقاط طائرة البان أمريكان وهذه بتلك!؟
الزمان المحنط في ذاكرة العقيد يتمثل الحياة خارج الأزمنة والأمكنة، وهكذا استدعى العقيد فكرة إحياء الدولة الفاطمية، فيما كان يختزن إعجابا باطنيا بالحاكم لأمر الله ــ أحد الحكام المعتوهين في التاريخ ــ الذي كان يطلق أحكاما غرائبية تشبه أحكام العقيد، إذ أمر هذا الحاكم بأمر الله الفاطمي المصريين ذات مرة بأن يكون العمل في الليل والنوم بالنهار، ومنعهم كذلك من أكل (الملوخية) حتى أسرف كثيرا في العنت وأذاقهم رهقا متماديا.
غرائب العقيد وعجائبه معروفة، وهي إذ كانت تثير الضحك في نفوس البعض إلا أنها كانت في ذهن العقيد جزء من رؤيته للعالم، فالمجاز في تلك النكات والأفكار هنا ليس مجازا جماليا، وإنما هو مجاز واقعي وسريالي شديد القسوة وبالغ الخطورة
وحين يخرج العقيد من زمانه يبدو كائنا بدائيا وبائسا. ولعل ذلك مايفسر لنا استسلامه دون مقاومه، وطلبه من الثوار أن يرحمونه، عبر استدرار عطفهم بطريقة تضعنا تماما أمام شخص أشبه بشحاذ أو مسكين !؟
هكذا بين (غضب الأطفال) و(بطش الجبارين) تتحول السلطة قناعا للغرائز البدائية في نفوس الطغاة، ليصبح ذلك الزمن البارد في حس العقيد بحاجة إلى جحيم بطول البلاد وعرضها ليخرج منه؛ جحيم كان هو أول الداعين إليه.
كان القذافي مسخا بارزا لتلك الصورة القبيحة للسلطة والطغاة في هذا الجزء من العالم المسمى عربيا، لكنه ليس استثناء حيال مفاعيل السلطة في نفوس الطغاة. فما يفعله بشار الأسد في شعبه اليوم من قتل وتعذيب هو صورة أخرى لتجليات تلك السلطة حين تتحول إلى شيطان متوحش يلغي الإحساس بأحكام القيمة في نفوس الطغاة، ويجعلهم كائنات دموية خالصة.
ولهذا من السخف الظن بأن لأمثال هؤلاء الطغاة العرب القدرة على رؤية الأشياء بصورة مستقلة، أو القدرة على القبول بالحوار انطلاقا من الوعي بالوطن والشعب والحقوق. إنهم مخلوقات أقل بكثير من أن تكون في مصاف البشر العاديين فضلا أن يكونوا قادة لشعوبهم. لهذا ستكون نهاياتهم بائسة، ولا تليق بمطلق البشر.
[email protected]