ثمة عنف موروث يتعرض له الشعب السوري وهو يخوض ثورته العظيمة ؛ عنف ربما لا تنطبق عليه صفة الموروث إلا كدلالة حصرية على أسوأ ماورثه بشار الأسد عن نظام والده. ذلك أن العنف الأعمى ذي الطبيعة النسقية المسدودة ربما كان السبيل الوحيد لهذا النظام في تدوير ذلك الميراث الذي لا يملك سواه.
وهكذا فيما يتصل بردود فعل هذا العنف، سيظل الشعب السوري باستمرار قادرا على اكتشاف أسوأ علامات الضعف المخيف لهذا النظام حيال حراكه المتصل منذ الخامس عشر من آذار الماضي.
فالعنف الذي يمارسه بشار الأسد وأخوه ماهر الأسد وبقية أركان النظام السوري هو في الحقيقة مقياس الخوف الذي يزداد به النظام تخبطا أمام الثورة.
وهو عنف ربما لن يمارسه الرئيس حافظ الأسد لو كان على قيد الحياة.
فالأسد الأب عرف كيف يستغل العنف في التحرك المحدود الذي حدث في حماة عام 1982 ضمن سياق تكتيكي ذكي استغل فيه الكثير من عناصر التمويه والتغطية كردود فعل على صيغة العمل المسلح لدى إحدى فصائل الإخوان المسلمين التي تبنت العنف في حماة.
كان العنف الذي مارسه الأسد صناعة شريرة لإسكات تمرد طرفي ومحدود، بالرغم من كمية الضحايا التي نجمت عنه، أما العنف الذي يمارسه الأسد الابن فهو وراثة عمياء وغبية في توظيف آلة القتل في زمان ومكان غير مناسبين. فلا الزمان الذي نعيش فيه ثورة الاتصالات والمعلومات، يسمح بإخفاء ذلك العنف ولا بالسكوت عنه، ولا المكان الذي يتكرر في جميع المحافظات السورية من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب هو بمثابة حماة في العام 82
والحال أن النظام السوري أصبح بفعل هذا الميراث الدموي مرجعية للعنف العاري ومن ثم أصبح معرضا للنقد حتى من أقرب أصدقائه. فطبيعة العنف المميت الذي يطاول المدنيين ربما كانت أصدق وصفة لعزل النظام السوري، وتكذيب كل دعاويه، وحشره في أضيق زاوية أمام الجميع.
لا يكف النظام عن تجريب العنف المجرب، فيما لايكف الشعب في كل يوم جديد عن اكتشاف مدى الضعف والهشاشة في النظام كلما ازداد عنفا.
هذه مواجهة خاسرة بكل تأكيد. وإذا كان النظام لا يرى في نتائج العنف زيادة على الإصرار في المواجهة من طرف الشعب، فإن ذلك يعني بالضرورة أن نهايته مسالة وقت، لأن نتائج ذلك العنف الواقع على المدنيين تسفر كل يوم عن اصطفافات جديدة إلى جانب الشعب السوري حتى من قبل أصدقاء النظام.
هكذا يلعب النظام بكل أوراقه في رهان خاسر، فنتائج العنف الواقع على المدنيين تنحو باستمرار منحى تصاعديا في الداخل والخارج.
فمن جهة لا يمكن للشعب السوري أن يعود إلى ماقبل 15 آذار، ومن جهة أخرى لا يمكن للنظام أن يكف عن العنف السينيكي (الكلبي)، ومن جهة ثالثة لا يمكن للعالم أن يقف مكتوفا حيال نتائج ذلك العنف الفظيع.
وفي مناخ عربي لا تزال تداعياته تشير إلى تسونامي ثوري في المنطقة لا يمكن للحالة الثورية في سوريا أن تظل على هذا النحو، فالجار التركي سيعلب بالضرورة دورا كبيرا وأساسيا في اختراق الوضع السوري، ضمن سياق دولي تسعى الولايات المتحدة إلى ترتيبه، عبر إقناع الصين وروسيا للوقوف مع مشروع قرار أوربي أمريكي سيكون أكثر حزما ضد سوريا في مجلس الأمن خلال الأيام القادمة ؛ وستسفر عنه بالضرورة عن قرارات لاحقة وخطيرة.
ثمة العديد من السيناريوهات التي يمكن أن تحدث تحولات جذرية حيال الوضع السوري، لكن زمام المبادرة لابد أن يكون عبر التنسيق مع ممثلي هيئات الثورة السورية في الداخل. وإذا كان الحراك في الداخل لا يتقدم إلا في ضوء التنسيق مع الخارج فإن هناك الكثير من الترتيبات التي يمكن أن تأخذ مسارات أخرى تصب في مهمة إسقاط النظام ؛ فتحويل ملف الجرائم التي ارتكبها النظام السوري إلى محكمة الجنايات الدولية مثلا ـ بالإضافة إلى الحراك في المنظمة الدولية ومجلس الأمن ـ من شأنه أن يفتح بابا آخر في طريق الخلاص من نظام الأسد. ولمحكمة الجنايات الدولية العديد من وسائل القبض على مجرمي الحرب، إذا أمكن لها أن تجد تعاونا دوليا حيال تطبيق تلك المهمة.
ورغم التوقعات المختلفة لطريقة ردود فعل المجتمع الدولي على ما يقوم به النظام السوري من جرائم بشعة ضد الشعب، إلا أن تداعيات ذلك العنف الذي يمارسه بشار الأسد ونظامه هي التي ستسرع من كسر الدائرة الجهنمية بين الطرفين.
إن الشعب السوري عبر هذه الثورة الفريدة يضرب مثلا لمعنى أن تكون المفاهيم القيمية ـ لا الآيدلوجية ـ أكثر وضوحا وأكثر إلحاحا في ضوء ذلك العنف. فثمن الحرية والكرامة والعدالة يقتضي باستمرار الحاجة إلى ذلك العنف ليس فقط كرد فعل من سلطة متوحشة تمارس السياسة بأدوات القرون الوسطى، وإنما أيضا لأن اللحظات التأسيسية الكبرى لتحقيق تلك القيم في حياة المجتمعات البشرية تمر بمثل ذلك العنف المميت.
ثمة علاقة شرطية إذن بين الحاجة إلى تمثل الحرية والكرامة والعدالة في حياة الشعوب، وبين العنف للخروج من نسق القمع والاستبداد.
[email protected]