محمّد جميل أحمد: إلى أيّ مدًى يمكن للشعر أن يكَوِّن معرفة جمالية بهُويّة ما، دون أن يقع في تلك المقاربة المشكّكة بقدرته على إنتاج المعرفة، لامجرد التعبير عنها فحسب؟ ففضلا عن إشكالات الفكر وذهنيته المتصلة بإعاقة انسيابية الشعر ولطافته؛ تبدو المعرفة في وجه آخر طاقة لا يطيقها الشعر؛ لاسيما تلك المعرفة التي تنحو إلى التعبير عن مفاهيم ميتافيزيقية.
إزاء التباس كهذا في الكتابة الشعرية كانت هناك اختراقات نادرة لشعراء مشرقين، ملكوا القدرة على صياغة تعبير شعري قارب إدراكا ما للمعرفة في بنية شعرية شفافة وعميقة في ذات الوقت.
ربما كان الشاعر السوداني الراحل محمد عبد الحي (1944 ــ 1989) أحد الشعراء الذين صاغوا معرفة جمالية للهوية من خلال مجموعته الشعرية (العودة إلى سنار)، فهذه المجموعة التي تتكون من خمس أناشيد طويلة (البحر، المدينة، الليل، الحلم، الصبح) كانت ولا تزال أهم كتابة شعرية سودانية؛ حاولت الكشف عن الهُويّة بحسبانها معرفة مخبوءة في التاريخ، وقابلة للتجلي في الشعر.
لقد كانت هذه التجربة الطويلة للشاعر محمد عبد الحي مع قصيدة (العودة إلى سنار) عملا مرهقًا وشاقًّا؛ حتى وصفه الشاعر ذات مرة بـ(اللّعنة) إذ ظل يكتب هذه القصيدة شطرًا طويلا من حياته.
ومنذ أن بدأ بكتابتها وهو في السابعة عشر من عمره؛ كان عبد الحي يختبر التجليات الأصفى للشعر في مقاربة الهوية. ولأن ذلك يفضي إلى صيرورة لا متناهية من عمليات الخلق الشعري؛ فقد كانت (العودة إلى سنار) إلى حين صدورها في الطبعة الثالثة في العام 2010 التي نحن بصدد الحديث عنها، أي بعد رحيل الشاعر بأكثر من واحدٍ وعشرين عامًا؛ تبدو كما لو أنها التحرير ما قبل الأخير.
في هذه القصيدة كان عبد الحي يبحث عن هُويّة موجودة بالقوة وغائبة بالفعل، كان يرى في الماضي معنًى ما للمستقبل بعيدًا عن الحاضر وكان ذلك في صورة منه أشبه بما أراده عبد الحي من تأويل للهوية تماهى مع رؤية (جيمس جويس)، فقد صرح عبد الحي في شرح على هامش القصيدة متأولا ذلك المعنى بقوله : ((في القصيدة ربما كانت سنار دفعة من كيان الفنان في شبابه حينما رغب ــ كما رغب جيمس جويس من قبله ــ أن يشكل في مصهر روحه ضمير أمته الذي لم يخلق بعد)) 1. والقيام بمثل هذا العبء عبر توسل الشعر كمجاز لمعرفة متصلة بالهوية لم يكن من السهولة بمكان. ذلك أن المعرفة بقدر أتساعها كـ(موضوع) في الحالة الشعرية؛ بقدر ما تنطوي على ضغطها كـ(ذات) في رؤية الشاعر. وكان عبد الحي باستمرار يشعر بهذا الضغط عبر جدلية المحو والكتابة المتجددة لهذه القصيدة التي لازمته زمنًا طويلا.
اجترح عبد الحي كتابة مختلفة في التعبير الشعري؛ سواءً لجهة الموضوع أو لجهة التفرد الذي بدأ صوتًا خافتًا في المشهد الشعري العربي الصاخب بالآيدلوجيا في ستينات القرن العشرين، حين بدأ محمد عبد الحي كتابة قصيدة (العودة إلى سنار). كان الوصول إلى الهُويّة شعريًّا أقرب إلى الكشف الصوفي منه إلى الإدراك، بل كانت الهُويّة تَمثُّلا خفيًّا ولاواعيا، انتبه لها عبد الحي فجأة لقربها الشديد واللصيق من ذاته وقدره، وتاريخه، فيما كان يبحث عنها في مطارح أخرى بعيدة ولا يمكن أن توصله أبدًا إلى ذلك الكشف. لهذا صدَّر عبد الحي القصيدة بمقتبس صغير من الفتوحات المكية لمحي الدين بن عربي عن تجربة أبي يزيد البسطامي في خروجه من بلاده بحثًا عن الحق دون أن يدري أنه ترك الحق الذي يبحث وراءه في بسطام. (قال: يا أبا يزيد ما أخرجك عن وطنك.
قال : طلب الحق
قال : الذي تطلبه قد تركته ببسطام
فتنبه أبو يزيد ورجع إلى بسطام ولزم الخدمة حتى فتح له).
نشيد البحر
في النشيد الأول، نشيد البحر، يرى الشاعر أُفقًا غامضًا لأمته المشار إليها بضمير الجمع، مصورًا بدايات رمزية خاملة، حيث البحر يحيل إلى معناه الأسطوري الموحش ماءً لبدايات كون غارب يرسم الشاعر من خلاله صورًا تشي بموات الحياة المنعكس في الطبيعة : ثمار بلا شجر، وظلال بلا شواخص، أشجار ميتة، وبقايا لحياة منسية في ظلمة البحر. ذلك أن الشمس الغارقة في البحر هنا ليست سوى صورةٍ بدائية لكينونة الوطن ما قبل تكوين مملكة البراءة، فهي شمس مكونة من أمشاج غير مكتملة من الفسفور في عالم الماء الموحش.
(أُبْصِرُ كيفَ مَرَّ أوَّلُ الطـُّيورِ فَوْقَنَا ودارَ دَوْرَتيْنِ قبلَ أنْ يغيبْ
في عتـْمةِ النُّورِ وفي حديقةِ المَغِيبْ
وكانتِ الشَّمسُ على المِياه أمشاجًا من الفسْفُور واللَّهيبْ
تَغرُبُ مِن قلب مياهِ الأفقِ الغربيّ
حديقةً وهْمِيَّةَ الثـِّمارْ)
والمعنى المضمر في مشاهد المقاطع الأولى من نشيد البحر التي تلي هذا المقطع يوحي بعلامات ذات غائبة ومنطمسة في البحر حيث : العتمة / الصمت / الظلام / الضباب / المغيب / الغور، في سياق تتكرر فيه بعض تلك المفردات؛ لتقوم دلالة على أبدية صامتة توحي بوعد غامض لحياة جديدة؛ حياة تتجلى عبر النور والكلام واللغة.
هذا العالم الميت الصامت في الغياب حيث تمحو صور الليل صور النهار فجأة تهب عليه رياح جديدة برائحة جديدة ولون جديد، فمن صمت الموت تزهر الحياة / الكلام، ومن الظلام تضيء المصابيح :
(وحَمَل الهَوَاءْ
رائحةَ الأرضِ
ولَوْنًا غَيْرَ لَوْنِ هذِه الْهاويةِ الْخَضْراءْ
وحَشْرَجَاتِ اللُّغةِ الْمَالِحَةِ الأصْدَاءْ
وفي الظَّلاَمْ...
كانتْ مصابِيحُ القُرى
على التِّلالِ السُّودِ والأشجَارْ
تطْفُو وتدْنُو مَرَّةً
وَمَرَّةً تَنْأى تَغُوصْ
في الضَّبَابِ والبُخارْ
تَسْقُطُ مِثلَ الثَّمَرِ النَّاضِجِ في الصَّمْتِ الكَثِيفْ)
بيد أن تشكل صور الحياة المنبعثة من مصابيح القرى كعلامات متأرجحة ومؤذنة بظهور جديد؛ تبدو هنا خروجًا للنقيض من النقيض؛ لترتسم بداية جديدة يكون الشجر الحي فيها بديلا عن الشجر الميت، ولحم الأرض (خصوبتها). أما الأزهار فهي الحياة المنبعثة من الأشنات والليف في المشاهد السابقة لعالم البحر. والعلامة الدالة على ذلك الوضوح المتشكل من قلب العتمة البحرية هي الطيور
(وارْتَفَعَتْ مِنْ عَتمةِ الأرْضِ طُيُورُ النَّارْ
وهاهِي الآنَ جُذُوعُ الشَّجَرِ الْحَيّ
ولَحْمُ الأرْضِ
والأزْهَارْ)
ويستثمر عبد الحي ثيمة التقطيع؛ ليضعنا فجأة أمام مشهد للقاء متخيل يجسد اكتمال الهُويّة والكينونة. ومن خلال البحث عن هذا اللقاء تأتي الأناشيد التالية تعبيرًا عن الرؤيا التي تسرد صيرورات هذه الهُويّة؛عبر عوالم مختلفة وعناصر مزدوجة تؤشر على بدايات التكوين لهُويّة أمته:
(الليَّلةَ يَسْتَقبَلُني أهْلِي
خَيْلٌ تَحْجُلُ في دائرةِ النَّارْ
وتَرْقُصُ في الأجْرَاسِ وفي الدِّيِباجْ
امْرَأةٌ تَفْتَحُ بابَ النَّهْرِ وتَدْعُو
مِنْ ظُلمَاتِ الجَبَلِ الصَّامِتِ والأحْرَاجْ
حُرَّاسَ الُّلغَةِ ــ المَمْلَكَةِ الزَّرْقَاءْ
ذلك يَخْطِرُ في جِلْدِ الفَهْدِ،
وهذا يَسْطَعُ في قِمْصَانِ الماءْ)
في هذا المقطع يكشف عبد الحي عن الرمز والتكوين الدال عن الهُوية، فالمرأة هنا دالة الوطن، والنهر/ (النيل) هنا هو بديل عالم البحر الميت. ودالة الوطن (المرأة) إذ تستدعي اللغة من عالم الصمت؛ لغة المملكة الزرقاء 2 إنما تستدعي التاريخ في أقنوم الهوية؛ أي أن استدعاء سكان وحراس تلك المملكة الزرقاء عبر مخيال تاريخي في أفق الحاضر هو ما يعني اكتمال الهُوية.
فحين يقول عبد الحي :
(ذلك يَخْطِرُ في جِلْدِ الفَهْدِ،
وهذا يَسْطَعُ في قِمْصَانِ الماءْ)
يشير إشارة واضحة إلى عنصري التكوين المزدوج للذات السودانية المندمجة في (الزنوجة والعروبة) لأول مرة بقيام المملكة الزرقاء2. وهي أول مملكة التي جمعت بين الزنج والعرب في حلف واحد في القرن الرابع عشر، وكانت عاصمتها مدينة (سنار). وهنا نجد أن عبد الحي يذكر المملكة الزرقاء صراحة كدلالة تاريخية في نشيد البحر المكثف بالرموز؛ مؤذنًا بنهاية الزمن المطلق والمكان الموحش في عوالمه. وسينطلق الشاعر في بقية الأناشيد الأربعة من هذا التكوين؛ ليختبر المعنى الرمزي للهوية عبر الكثير من تأويلات الرؤى الشعرية. لكننا سنجد أيضًا أن بناء الرؤية في بقية الأناشيد يتصل بنشيد البحر في سياق بناء نقيض لرموزه كما سنرى لاحقا.
نشيد المدينة
بالرغم من أن المدينة المعنية هنا هي مدينة (سنار) المهد التاريخي للمملكة الزرقاء إلا أن رؤية الشاعر للمدينة هنا تحيل إلى مستوى رمزي لسنار. فسنار في الخطاب المضمر للنص هي فضاء الوطن المشتهى في المستقبل.
يبدأ النشيد بعودة بين زمنين ومكانين، فالشاعر إذ يصرح بأنه سيعود إلى سنار اليوم؛ تبدو العودة من خلال السياق عودة في زمن لاحق (المستقبل)؛ لأنها عودة متصلة بالحلم. ولتحقيق تلك العودة (الحلم ) يربط الشاعر بين الثمر الناضج والجذر القديم، بين الصوت والصدى، كما بين ماء الليل وليل الدماء في حالة رمزية تشير إلى المعنى بأكثر من وجه. ومن خلال نشيد المدينة (سنار) يستدعي عبد الحي حوارًا مع أهلها، الحوار هو نتيجة اللقاء المتخيل في نشيد البحر، وهو جوهر المعنى في هذا النشيد؛ لأنه علامة الوصول التي تهيّء للدخول إلى (سنار) بعد رحلة طويلة في المتاهة. ويبدو أن عبد الحي كتب هذا النشيد، حين كان في بريطانيا أثناء الدراسة العليا.
(سَأَعُودُ اليَوْمَ يا سِنَّارُ حَيْثُ الحُلمُ يَنْمُو تَحْتَ مَاءِ الليل أشْجَارًا
...................
سَأَعُودُ اليَوْمَ يا سِنَّارُ حَيْثُ الرَّمْزُ خَيْطٌ
مِنْ بَرِيقٍ أسْوَدَ بَيْنَ الصَّدَى والصَّوْتِ
بَيْنَ الثَّمَرِ النَّاضِجِ والجَذْرِ القَدِيم.)
وكما فصل عبد الحي بين زمن البحر (زمن الغياب وما قبل التكوين ) وبين زمن التكوين بعلامات مضمرة، في نشيد البحر ومتذررة في بقية الأناشيد كعلامة (طيور النار)، نجده كذلك يستصحب تأويل البحر ورموزه داخل النص في نشيد المدينة، ذلك أن نشيد البحر، كما أسلفنا سابقا؛ هو النقيض الذي تتكشف من خلاله الهُوية في الأناشيد، وبهذا المعنى فإن البحر هنا يحمل أكثر من دلالة على الغياب؛ سواء لجهة الفضاء التاريخي السابق لتكوين المملكة الزرقاء، أو لجهة المكان المحايث والزمان المحايث للشاعر بعيدًا عن التحقق الذي ظل ينشده بحثًا عن الهوية.
(فافتحوا حراس سنار افتحوا للعائد الليلة أبواب المدينة
بَدَوِيٌّ أنْتَ ؟
-لا
مِنْ بِلادِ الزِّنْجِ
-لا،
أنا مِنْكُمْ تَائِهٌ عَادَ يُغنِّي بِلِسَانٍ
ويُصَلِّي بِلِسَانْ
الشاعر السوداني الراحل محمد عبد الحي |
مِنْ بِحَارٍ نَائِيَاتٍ لَمْ تُنِرْ في صَمْتِهَا الأخْضَرِ أحْلامُ المَوَانِيء)
ومن خلال الحوار يسرد الشاعر رؤاه فصولا من سفر الغياب والمتاهة، وهي رؤى تتجلى عبر الحواس وتتخذ من عوالم البحر وإشاراته الدلالية في النص قناعًا لذلك الغياب، عبر تلك الرؤى الغامضة يبحث الشاعر عن أيقونته الساحرة في الأمواج العظيمة للبحر؛ فيرى ويسمع أشكال غامضة في طور التخلق : الهيكل العظمي، واللحم السائل، والأصوات المجمجمة بكلام مهموس، ثم يشهد الشاعر في عالم البحر انزياحات مختلطة لمشاهد مكانية وأراضٍ تحيل على التباس الرؤيا، يوحي الشاعر عبرها بقناع المكان الذي هجس فيه بتلك الرؤى (بريطانيا) المختلطة برمزي التكوين : الزنوجة والعروبة، في إشارة واضحة، كذلك إلى استصحاب الآخر كدلالة مضمرة للمكان من ناحية، وكتماهٍ مع تقنية في الكتابة الشعرية العربية القديمة من ناحية ثانية.
(بَاحِثًا بَيْنَ قُصُورِ المَاءِ عَنْ سَاحِرَةِ المَاءِ الغَرِيبَة
.............
وسَمِعْتُ ما سَمِعْتُ
ضَحَكَاتِ الهَيْكَلِ العَظْمِيِّ؛ واللَّحْمِ المُذَابْ
فَوْقَ فُسْفُور العُبَابْ
يَتَلَوَّى وهو يَهْتَزُّ بِغُصّاتِ الكَلامْ.
وشَهِدْتُ ما شَهِدْتُ
...................
صَاحِبِي قُلْ ما تَرَى بَيْنَ شِعَابِ الأرْخَبِيلْ؟
أرْضَ ديكِ الجِّنِّ أمْ قَيْسِ القَتِيلْ ؟
أرْضَ أَوْدِيبَ ولِيْرَ، أمْ مَتَاهَاتِ عُطَيْلْ ؟
أرْضَ سِنْغُورَ عَلَيْهَا مِنْ نُحَاسِ البَحْرِ صُهْدٌ لا يَسِيلُ؟)
هكذا إذ يستخدم عبد الحي تقنية التقطيع من خلال الحوار في هذا النشيد، تبدو تفاصيله سردًا لمتاهة الغياب المفضية إلى المدينة،ذلك أن معنى الحوار لن يكتمل في نهاية النشيد إلا بتلك التفاصيل التي يحضر فيها البحر كعلامة لذلك الغياب؛ الذي من خلاله يصل الشاعر ثم يدخل في مدينته. لقد ذكر الشاعر البحر صراحة وتأويلا أكثر من ستِّ مرات في نشيد المدينة؛ ليرسم عبر تلك العلاقة بين الرمزين حدود المعنى وحدود الهُوية وحدود المكان؛ ويختبر عبد الحي غنائية مفعمة بالعواطف ليتمثل معنى الهوية :
(وبَكَيْتُ ما بَكَيْتُ :
مَنْ تُرَى يَمْنَحُنِي
طَائِرًا يَحْمِلُنِي
لِمَغَانِي وَطَني
عَبْرَ شَمْسِ المِلْحِ والرِّيحِ العقَيِمْ
لُغَةً تَسْطَعُ بِالحُبِّ القَدِيمْ)
فالطائر هنا هو علامة الرؤية والوضوح، فيما شمسُ الملح هي البحر الذي تاه فيه طويلا. وسنجد أن للطيور في نشيدَيْ البحر والمدينة علاقةً بوضوح الرؤيا وظهور المعنى الدال على الهوية. ففي نشيد البحر قال عبد الحي :
(وارْتَفَعَتْ مِنْ عَتمةِ الأرْضِ طُيُورُ النَّارْ)، ثم قال بعد ذلك في ذات النشيد
(وهاهِي الآنَ جُذُوعُ الشَّجَرِ الحَيّ
ولَحْمُ الأرْضِ
والأزْهَارْ)
أما في نشيد المدينة؛ فيقول عبد الحي مؤذنًا بوضوح الرؤيا بعد المتاهة في البحر :
(حَيْثُ آلافُ الطُّيُورْ نَبَعَتْ مِنْ جَسَدِ النَّار)
ليعيد بعد ذلك استئناف الحوار مخاطبًا حراس المدينة التي وصل إليها :
(فَافْتَحُوا، حُرَّاسَ سِنَّارَ، افْتَحُوا لِلعَائِد ِاللَّيْلَةَ أبْوَابَ المَدِينَهْ)
وليجد جواب المعرفة من حراس المدينة :
(إنَّنا نَفْتَحُ يا طَارِقُ أبْوَابَ المَدِينَهْ)
وهكذا يدخل الشاعر إلى مدينته التي تاه بعيدًا بحثا عنها؛ فيما هي قريبة منه؛ لينام :
(مِثْلَمَا يَنَامُ في الحَصَى المَبْلُولِ طِفْلُ المَاءْ
والطَّيْرُ في أعْشَاشِهِ
والسَّمَكُ الصَّغِيرُ في أنْهَارِهِ
وفي غُصُونِهَا الثِّمَارْ
والنُّجُومُ في مَشِيمَةِ السَّمَاءْ)
نشيد الليل
ينطوي نشيد الليل على مجاز رؤية متصلة بختام النشيد السابق (نشيد المدينة )؛ لهذا يفتتح الشاعر نشيد الليل بذكر المدينة، لكن المدينة هنا هي جزء من الليل فهي مكان الحلم الذي يراه الشاعر في الليل.
ويمكننا القول أن نشيد الليل هو امتداد حلمي لنشيد المدينة. فالشاعر يستخدم الإيهام المتصل بعالم البحر وبدايات التكوين؛ بطريقة يمكن أن تربك القاريء في فك دلالة الوضوح الصاعدة نحو الرؤيا في الأناشيد، وبهذا المعنى فإن إحالات نشيد الليل نسق منعكس لإحالات نشيد البحر، وبما أن نص عبد الحي هو نص إحالات بامتياز؛ سنجد أن إحالات نشيد الليل هي رموز جنينية لعالم مكتمل في اليقظة يعود إلى بداياته عبر الحلم، وهي أيضًا رموز يحاول الشاعر من خلالها تأويل الاندماج في تصور الهُوية المكتملة عبر بداياتها الأولى المختزنة في النواة، وهو تأويل يتصل بترميز مركب حاول الشاعر من خلال تجسيد دلالة الهُوية في ذات أسطورية؛ تتصل بالخرافة وتدل على الفرادة في الوقت عينه؛ حيث يستدعي الشاعر الكائن الخرافي(السمندل) من التراث العربي للإشارة إلى أُقنوم الهوية المركب للسلطنة الزرقاء.
وبعد أن قال الشاعر في ختام نشيد المدينة بعد دخوله إلى سنار:
(ونِمْتُ
مِثْلَمَا يَنَامُ في الحَصَى المَبْلُولِ طِفْلُ المَاءْ........) (نشيد المدينة)
يبدأ نشيد الليل بهذا المقطع
(وفَتَحَتْ ذِرَاعَها مَدِيِنَتي وحُضْنَها الرَّغِيدْ)
في نشيد الليل تذوب روح الشاعر في حلمه، حيث تنفتح على رؤاه بدايات مملكة البراءة والزرقة؛ ذلك أن الليل في هذا النص هو حاضن الحلم الذي تتجلى من خلاله علامات الرموز الأولى المهيأة للنضج الأبديّ في أفق الشمس الزرقاء. والتي يتأمل من خلالها الشاعر حالة الأُقنوم الذي سيجسّد بتكوينه المركب بداية جديدة لتكوين عناصر مملكة البراءة، والسمندل هو الذات التي تستقطب تلك العناصر.
(ويَعْبُرُ السَّمَنْدَلُ الأحْلامَ
في قَمِيصِهِ المَصْنُوعِ مِنْ شَرَارْ)
(في اللّيْلِ حَيْثُ الثَّمَرُ الأحْمَرُ
والبُرْعُمُ، والزَّهْرَةُ في وَحْدَتِهَا الأولَى
مِنْ قَبْلِ أنْ تُعْرَفَ مَا الأشْجَارْ)
ومن خلال نشيد الليل يعود الشاعر مرة أخرى إلى جدلية الدم والماء (ماء الليل)، (وليل الدماء) التي أشار إليها الشاعر في النشيد السابق (نشيد المدينة)،فالماء يسبق الدم، حيث الماء هيولى، والدم تكوين، الماء عدم والدم وجود؛ وهي جدلية؛ تشكل باستمرار إطار الكينونة المتخلقة من الغياب إلى الحضور، ومن الصمت إلى اللغة، جدلية الماء والدم تستدعي التحول من العدم إلى الوجود، أو الظهور عبر مصهر النار المتصل بعلامة الطيور الدالة على الوضوح في المعجم الشعري لهذا النص. ويأتي الصقر في هذا النشيد علامة على بداية التكوين المتصل بالنهاية في مجاز الليل فبين اللحم والعظام يكون الدم علامة الحياة :
(في اللَّيْلِ يَنْتَاشُ بَقَايَا خُرْقَةِ اللَّحْمِ على العِظَاِم
صَقْرُ اللَّيِلِ ثُمَّ تَصْعَدُ الدِّمَاءْ
غَمَامَةً فِضِّيَّةً فَوْقَ حُدُودِ المَاءْ)
في هذا النشيد؛ تعكس دلالة الرموز عبر استعارة الليل رؤية للنهاية المكتملة للهوية في أصل العناصر الأولى، من خلال استعادة حلمية، فهي اكتمال قائم ومركوز في أصل البدايات،وهذه الاستعادة الرؤيوية تتكشف عن سياق نقيض لسردية البدايات في نشيد البحر.
هكذا نجد في نشيد الليل امتدادا لنشيد المدينة، ورؤية نقيضة لنشيد البحر؛ فالنشيد / اللغة يعود لشكله القديم مع انبثاق الصورة الأولى من البحر
(وتَتَلوَّى الصُّورَةُ الأولَى
وتَطْفُو في مِيَاه الصَّمْتِ
حَيْثُ يَرْجِعُ النَّشِيدْ
لِشَكْلِهِ القَدِيمِ
قَبْلَ أنْ يُسَمِّي أو يُسَمَّى في تَجَلِّي ذَاتِهِ الفَرِيِدْ)
نشيد الحلم
يفتتح الشاعر نشيد الحلم بصورة الصقر الذي اختتم به نشيد الليل تمهيدًا لرؤيا/ بشارة يراها الشاعر في آخر الليل؛ لينتظر بعدها شمس القبول، ونهاية الليل التي تسفر عن حلم؛ تقوم دلالة على قدوم الفجر الذي يستدعي غياب عالم الظلام وكائناته :
(الصَّقْرُ عَادَ لِلجَّبَلْ.....
واهْتَزَّتِ النَّخْلَةُ في رشَاقَةٍ وفَوْقَهَا بُرْجُ النُّجُومِ المُكْتَمِلْ
يَجْنَحُ لِلأفُوُلْ
كَمَلِكٍ قَتِيلْ
ورَجَعَ السَّبْعُ إلى عَرِينِه، ونَزَلَ الجَّامُوسُ لِلمِيَاهْ)
في هذا النشيد يستعيد عبد الحي رؤى البحر المنطفئة،الرامزة إلى الغموض، والعتمة؛ ليظهر بعدها الطير مرة أخرى في براري الحلم علامة على الرؤيا وبروز عوالم متصلة بالكشف، وبالرغم من أن الصوت الفردي يناسب فضاء الحلم؛ فإن الشاعر يختبر مرة أخرى رؤاه في ضوء إشارات نشيد البحر ويستدعي بعض إحالاته :
(ولَمْ يَزَلْ طَيْرُ دَمِي يَصِيحْ
.....................
ويَضْرِبُ المَوْجُ بَرَارِي حُلُمِي
وتَحْمِلُ الرِّيَاحْ
لِي مَرَّةً ثَانِيَةً رَائِحَةَ البَّحْرِ ونَقْشًا مِنْ نُقُوشِ لُغَةٍ مَيِّتَةٍ عَلى الْجِرَاحْ)
ولأن تأويل البحر في نص عبد الحي يستدعي المتاهة؛ فإن الشاعر يتساءل عن مغزى تلك الرؤى المستعادة في الحلم من نشيد البحر، ومن خلال هذه التساؤلات التي تتأول احتمالاتها بين الوعي والغموض، والحضور والغياب على امتداد مقاطع النشيد تتضح عوالم الحلم من خلال الرموز، فبعد أن يستعيد الشاعر ذلك المشهد من عالم البحر في نشيد الحلم يقول :
(أدَعْوَةٌ إلى سَفَرْ
أمْ عَوْدَةٌ إلى ظَلاَمِ الأرْضِ والشَّجَرْ
أمْ صَوْتُ بُشْرَى غَامِضٍ يَرْجُفُ كَالسِّحْلِيَّةِ الخَضْرَاءِ تَحْتَ خَشَبَاتِ البَابْ
يَبْعَثُهُ مِنْ آخِرِ الضَّمِيرِ مَرَّةً عُوَاءُ آخِرِ الذِّئَابْ
في طَرَفِ الصَّحْرَاءِ، مَرَّةً رَنِينُ مَعْدَنٍ في الصَّمْتْ
ومَرَّةً هَمْسُ عَصَافِيرِ الثِّمَارِ حِينَمَا يَلْمَسُهَا بِالَّلهَبِ الأزْرَقِ جِنِيُّ القَمَرْ)
في هذا المقطع تبدو علامات الرحلة في الحلم عبر رموز الهوية الكامنة في أقنومها؛ فالذئاب التي ترمز إلى الغابة يتصادى عويلها في الصحراء؛ برنين الذهب في صمت البدايات؛ وهمس الثمار الصيفية الناضجة.
إنه صوت البشارة إذ يتشكل عبر أصوات تلك الرموز بين مختلف الأشكال؛ ليتحول إلى صوت باب الجبل الدال على المملكة الزرقاء حيث يشير الشاعر إلى هذا المعنى بقوله :
(أمْ صُوْتُ بَابِ جَبَلٍ يَفْتَحُهُ في آخِرِ اللَّيْلِ وقَبْلَ أوَّلِ الصَّبَاحِ
المَلِكُ السَّاهِرُ في حَدِيقَةِ الوَرْدِ البِدَائِيَّةِ في إشْرَاقَهِ الجِرَاحْ
يَمُدُ لِي يَدَيْهِ
يَقُودُنِي عَبْرَ رُؤى عَيْنَيَهِ
وعَبْرَ أدْغَالِ لَيَالِي ذَاتِكِ القَدِيِمَهْ
لِلذَّهَبِ الكامِنِ في صُخُورِكِ العظَيِمَهْ)
وهكذا يقع الشاعر على صورته الأولى المفضية للذاكرة الأولى؛ ليحتمي بها من الضياع في المتاهة، فالرموز التي يوردها الشاعر في رحلته عبر الحلم تعيد باستمرار ملامح ذات تاريخية قديمة في أشكال : الزهرة، والثعبان المقدس، تمثال العاج، والنقوش السوداء، وهي رموز تاريخية تشكلت في رؤى الشاعر كبشارة للرؤيا الكبرى في المستقبل.
ويتحول صوت البشرى الغامض إلى أصوات أخرى أكثر وضوحًا، صوت باب الجبل الذي يرمز إلى صدى الكينونة في التاريخ (الملك / المملكة الزرقاء) ثم صوت الوطن المسموع في صوت المرأة / الوطن التي تفتح باب الجبل.
وبعد أن يرى الشاعر تلك الرموز ويسمع الأصوات يتساءل :
(حُلُمٌ مَا أُبْصِرُ أمْ وَهْمٌ
أمْ حَقٌ يَتَجَلَّى في الرُّؤيَا ؟)
وهذا التساؤل سيصاحب الشاعر خلال هذا النشيد في حلمه الطويل.
فالمرأة /الوطن حين تفتح أبواب الجبل الصامت،وتستعيد الضوء عبر قناديل العاج؛ تنام في عتمة التاريخ؛ لتولد مرة أخرى في انبعاث جديد بين الحرير وتتهيأ بحميمية النشوة والرنين جسدًا ناضجًا بين يدي شيخ يعرف خمر الله وخمر الناس :
(أسَمَعُ صَوْتَ امْرَأةٍ تَفْتحُ بَابَ الجَّبَلِ الصَّامِتِ تَأتِي بِقَنَادِيِلِ العَاجِ
إلى دَرَجَاتِ الهَيْكَلِ والمَذْبَحِ ثُمَّ تَنَامُ....
لِتُولَدَ بَيْنَ الحُرْحُرِ والأجْرَاسْ
شَفَةً، خَمْرًا، قِيثَارًا
جَسَدًا يَنْضَجُ بَيْنَ ذِرَاعَيْ شَيْخْ)
ويتحول الصوت إلى لغة في شفاه من ذهب :
(لُغَةً فَوْقَ شِفَاهٍ مِنْ ذَهَبٍ
أمْ نُورٌ في شَجَرِ الحُلُمِ المُزْهِرِ
عَدَدَ حُدُودِ الذَّاكِرَةِ الكُبْرَى
الذَّاكِرَةِ الأُولَى)
هكذا تتحول الأصوات إلى رموز واضحة في رؤية الشاعر من التاريخ إلى الوطن؛ لتجد معناها الكامل في ثمرة العلاقة بين المرأة والشيخ طفلا يجسده صوت الشاعر المعبر عن صوت شعبه :
(أمْ صُوْتِي يَتَكَوَّرُ طِفْلًا
كَيْ يُوْلَدَ في عَتَبَاتِ اللُّغَةِ الزَّرْقَاءْ)
بيد أن الشاعر يرى الحلم مكتملًا من وراء أفق بعيد، فصوته الوليد لا يزال متكورًا يحمل في ذاته أطيافًا غامضة؛ لأجيال في الغيب البعيد؛ حيث يكتمل النشيد ويتجسد الصوت :
(وتجِيئُ أشْبَاحٌ مُقَنَّعَةٌ لِتَرْقُصَ حُرةً زَمَنًا،على جَسَدي الذي يَمْتَدُ أدْغَالًا، سُهُوبًا تَمْرَحُ الأفْيَالُ، تَسْتَرْخِي التَّماسِيحُ، الطُّيورُ تَهُبُّ مِثْلَ غَمَامةٍ، والنَّحْلُ مِرْوَحَةٌ يغنّي وهو يَعْسِلُ في تَجَاوِيفِ الجِبَالِ، وتَسْتَدِيرُ مَدِيَنةً زَرْقَاء في جَسَدِي، ويَبْدَأُ صَوْتُها، صَوْتِي، يُجَسِّدُ صَوْتَ شَعْبي، صَوْتَ مَوْتَاي الطَّلِيقْ)
لقد ظل عبد الحي يطارد صوته ورمزه في الحلم؛حتى عثر على معناه في المقطع السابق؛ولهذا يقول الشاعر في نهاية نشيد الحلم :
(مَاذَا أكُونُ بِغَيْرِ هذا الصَّوْتِ؛ هذا الرَّمْزِ هذا العِبْءِ يَخْلُقُنِي وأخْلُقُهُ)
وإذ يكتمل الحلم أخيرًا بعد مَتاهٍ داخل الليل؛ ينام الشاعر مرتاحًا في انتظار الشمس :
(وحِيْنمَا يَجْنَحُ آخِرُ النُّجُومِ للأُفُولْ
ويَرْجِعُ المَوْتَى إلى المَخَابِيءِ القَدِيِمَهْ
......................................
أنَامُ في انْتِظَارْ
آلِهَةِ الشَّمْسِ وقَدْ أُتْرِعَ قَلْبِي الْحُبُّ والقَبُولْ).
نشيد الصبح
سنلاحظ أن إيقاع هذا النشيد مختلفٌ عن بقية الأناشيد، في سرعته التي توازي اهتزاز الفرح والقبول، وما يتصل بذلك من خفة ونشوة.
يفتتح الشاعر هذا النشيد مستقبلًا شمس (سنار) بالترحاب والحفاوة، فالصبح هو أفق القبول الذي تتجلى فيه شمس الهوية، ويتمثل الشاعر من خلاله حقيقة الرؤيا عبر يقين خرج به من متاهة الغياب.
وإذا كان الشاعر قد أخلد إلى النوم في النشيد السابق؛ بعد أن رأى الحلم متجليًّا لينتظره مع الشمس؛ فإن القبول هنا علامة الرضا والاكتمال:
(مَرْحَى تُطِلُّ الشَّمْسُ هذا الصُّبْحَ مِنْ أُفُقِ القَبُولْ
لُغَةً على جَسَدِ المِيَاهْ)
هكذا يكتمل الصوت عبر اللغة ويتصل الضوء بالأصول البعيدة، في ليل الجذور؛ لتبدو سنارُ شمسًا تسطع من جديد :
(اليَوْمَ يَا سِنَّارُ أقْبَلُ فِيكِ أيَّامِي بِمَا فِيِهَا مِنَ العُشْبِ الطُّفَيْليِّ الذي يَهْتَزُّ تَحْتَ غُصُونِ أشْجَارِ البَرِيقْ)
وبالرغم من أن العشب الطفيلي الذي ذكره الشاعر هنا كدالة على هوامش وبقايا عالقة، أو زائدة تحت أشجار البريق، إلا أن هناك ما يمكن أن يكون دلالة مضمرة حيال مكونات أخرى عالقة، وحائلة دون صفاء الهوية.
بيد أن دالة القبول هنا المعبر عنها باللازمة الزمانية (اليوم أقبل....) ربما كانت دالة على معنى ظلّ عسيرًا على القبول في الذاكرة العربية التقليدية؛ ذلك أن تمثل عبد الحي وقبوله ورضاه بهويته التي ضاع عنها زمنًا؛ ليقبل بها من خلال أُقنومها المزدوج (العروبة والزنوجة) كان بمثابة انتهاك جسور لتابو الثقافة الشعبوية العربية التي كانت تتماهى مع مكون واحد (المكون العربي)، كمرجعية عرقية ولغوية، وتنكر المكوِّن الزنجي الذي ظل بمثابة التابو في سرديات الثقافة الشعبوية العربية؛ ولهذا فإن إشارات القبول التي تتكرر في نشيد الصبح تحيل بصورة من الصور إلى تجاوز عبد الحي لذلك التابو المفروض على ذاكرة الثقافة العربية الشعبوية لشمال السودان. في هذا النشيد يضج بالوضوح كثمرة للرؤيا، ويتأمل الشاعر ما يتدفق من ضوء شمس الرؤيا؛ ليملأ به الحواس وهو امتلاء يقوم على تذويب وتشذيب بقايا العتمة؛ ليستعيد الشاعر صفاء اللغة في الغناء :
(وأقُولُ : يَاشَمْسَ القَبُولِ تَوَهَّجِي في القَلْبِ
صَفِّيِني وصَفِّي مِنْ غُبَارٍ دَاكِنٍ :
لُغَتِي غِنَائِي)
ويستمر الشاعر في توصيف العناصر المزدوجة للأُقنوم المركب في سنار الجديدة :
(سِنَّارُ
تُسْفِرُ فِي
بِلاَدِ الصَّحْوِ جُرْحًا
أزْرَقًا، قَوْسًا، حِصَانًا
أسْوَدَ الأعْرَافِ، فَهْدًا قَاِفزًا في
عَتْمَةِ الَّدَّمِ، مَعْدَنًا في الشَّمْسِ، مِئْذَنَةً،
نُجُومًا في عِظَامِ الصَّخْرِ، رُمْحًا فَوْقَ مَقْبَرَةٍ ـ
كِتَابْ)
وإذ يعود الشاعر إلى ذكر سنار صراحة في هذا النشيد الأخير، كما ذكرها في نشيد البحر ناعتًا إيّاها بالمملكة الزرقاء؛ فإن ذلك يستدعي بالضرورة مقابلةً للوضوح؛ تقوم نقيضًا لعالم الغموض والغياب،عالم البحر، ويذكر الطيور ضمن دلالتها الخاصة في هذا النص:
(رَجَعَتْ طُيُورُ البَحْرِ فَجْرًا مِنْ مَسَافَاتِ الغِيَابْ
البَحْرُ يَحْلُمُ وَحْدَهُ أحْلاَمَهُ الخَضْرَاءَ في فَوْضَى العُبَابْ
البَحْرُ إنَّ البَحْرَ فِينَا خُضْرَةٌ
حُلُمٌ هَيوُلَى)
ويختم الشاعر نشيده الأخير في القصيدة باكتمال شمس الهوية/ الوطن؛ ليطمئن هذه المرة ليس على رضاه النفسي وتوازنه بعد صراع طويل؛ بل وكذلك على سيرورة المستقبل في أفق الوطن الطالع من شمس الهوية، فالشمس تكررت أربعَ مراتٍ في هذا النشيد.
كما يتجلى في هذا النشيد معنى الوضوح المعبر عنه بأكثر من دلالة، وهو وضوح يتفرع عن الشمس: البريق / الوهج / اللهب / اللمعة / الظهيرة /الصحو / الإسفار/ النقاء. و في موازاة الضوء تأتي ثيمة اللغة كدلالة على الهُوية، ذلك أنّ الهُوية مسألة لغوية في جذورها كما يقول (جون جوزيف) فـ ((التفكير في اللغة والهوية يستلزم تحسين فهمنا لماهيتنا))3؛ ولهذا نجد عبد الحي ذكر مفردة اللغة أربعَ مراتٍ تمامًا كمفردة الشمس؛ ما يعني أنّ صورة الهُوية ومعناها يقومان على الرؤية واللغة
(الشَّمْسُ تَسْبَحُ في نَقَاءِ حُضُورِهَا، وعلى غُصُونِ القَّلْبِ عَائِلَةُ الطُّيُورِ، ولَمْعَةٌ سِحْرِيَّةٌ في الرِّيِحِ، والأشْيَاءُ تُبْحِرُ في قَدَاسَتِهَا الحَمِيَمهْ
وتَمُوجُ في دَعَةٍ فلا شَيْءٌ نَشَازْ، كُلُّ شَيءٍ مَقْطَعٌ، وإشَارَةٌ تَمْتَدُ مِنْ وَتَرٍ إلى وَتَرٍ على قِيْثَارَةِ الأرْضِ العَظِيمَة).
المعنى الثقافي لـ(العودة إلى سنار)
أنّ الهُوية التي تمثلها عبد الحي في شعره كانت في الحقيقة تَمثُّلًا جماليًّا لمكوّن كبير من مكونات الهُوية السودانية، دون أن تكون مستوفية لمشمولات الهوية في الكيان السوداني؛ يفسر ذلك أن الزّنوجة والإفريقانية جاءت في تأويله للهُوية كعنصر في سياق الدلالة على هُويّة الوسط والشمال السوداني، وبطبيعة الحال لم يكن هذا التعريف الشعري يتضمن هُويّات زنجية أخرى صرفة في الجنوب والغرب؛ أي أنّ محمد عبد الحي كان يختبر هُويّة ناقصة،ويعيد تفسيرَ مكوِّنٍ مسكوتٍ عنه في هُويّة سودان الوسط والشمال؛ ما يعني بالضرورة أن الغابة والصحراء كانت تجربة لغوية جسورة واجهت الثقافة الشعبوية العربية في شمال السودان بمكون آخر، كان بمثابة التابو في ماهو معلن من سرديات تلك الثقافة العربية.
لقد نجح عبد الحي في مقاربة هُويّة ما للسودان عبر الشعر، وبعيدًا عن الآيدلوجيا لكن نجاحه هذا ظلّ يدرج الهُويّة الزّنجية للسودان مشروطةً بالاندماج في الهُويّة العربية؛ أي لم يكن هناك حديثٌ عن هُويّة زنجيّة ناجزة، وخالصة في مكوّنات السودان السياسي ضمن رؤيته للأنا السودانية.
كانتِ (العودة إلى سنار) انتهاكًا لأسطورة الهُويّة العربية الصافية في السودان،وتعبيرًا جسّد اعترافًا بالزّنوجة في إطار مشروط بالعروبة ومندمجٍ فيها. إنّ(العودة إلى سنار) في المعنى الثقافي لدلالتها، حاولت أن تعبر في فضاء ثقافي عربيٍّ عن هُويّة مزدوجة؛ لكن تعبيرها ذاك كان في تأويله الأخير إعادة تعريف بهُويّة ناقصة في بلد ما تزال للزّنوجة فيه هُوية مَحضة، ومتماسكة.
إحالات
1 العودة إلى سنار ص 37 الطبعة الثالثة عن دار مدارات ــ الخرطوم 2010
2 (المملكة الزرقاء) كانت أول كيان سوداني جمع بين الزنج والعرب في حلف واحد. وكانت عاصمتها مدينة (سنار). تأسست المملكة الزرقاء في القرن الرابع عشر وانتهت في بداية القرن التاسع عشر.
3 كتاب اللغة والهوية صفحة 54 : جون جوزيف، ترجمة عبد النور خراقي ـ سلسلة عالم المعرفة 2007 الكويت
التعليقات