مكسيم غوركي وانطون تشيخوف في يالطا عام 1900

يوسف يلدا ndash; سيدني: كان مكسيم غوركي (1868- 1936) يكتب بنبرة مشحونة بالمعاناة. ويمكن أن يتخيّل الواحد منا التوتر السائد في كتاباته النثرية التي أمامه. ونرى ذلك متجسداً في روايات عظيمة مثل ( الأم - 1907)، واحدة من أفضل ما وُصفت به روسيا ما قبل الثورة، أو في مسرحيته (الأعماق السفلى ndash; 1902). وعلى العكس من ذلك، يجد القارئ في أنطون تشيخوف (1860 ndash; 1904) الإعتدال، حيث يتراءى له كاتب (العم فانيا) متأملاً في مكتبه، في الوقت الذي يهب نسيم يالطا العليل من نافذة الغرفة، في مسعى منه للتخلص من مرض السل. ناقد لكل ما يحيط به، ولكن بهدوء جم لا يمكن أن يطيقه غوركي حتى ولو للحظة. ومع ذلك، فقد أدى هذا المزاج المتباين لدى كل من الأديبين الكبيرين الى ولادة أوثق صداقة أدبية في نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، كما يتضح ذلك من خلال كتاب (مراسلات 1898 ndash; 1904)، الصادر حديثاً، ولأول مرة باللغة الإسبانية، عن دار النشر (فونامبوليستا) في إسبانيا. والكتاب يحتوي على الرسائل المتبادلة بين عبقريين مختلفين، توثقت أواصر الصداقة فيما بينهما من خلال حبهما للأدب، quot;صداقة مثيرة، نابضة بالحياة، لا تشبه الحياة، بل تتجاوزهاquot;، حسب ما يكتبه غوركي عن الإعترافات التي تمنح القوة للبقاء أحياء، حيال قساوة الحياة.
يتناول روبين بوخانته كوربالان في خاتمة الكتاب، وبإسلوب حذق، مجموع الرسائل البالغ عددها 89 (48 رسالة وست برقيات لغوركي، و35 رسالة لتشيخوف)، في ست سنوات فقط. ان الذي بادر بالكتابة هو مكسيم غوركي، وذلك في عام 1989، إثر تحمسه المحموم بأعمال تشيخوف. وبكلمات نثر في غاية الروعة، يحثه للحديث عن الأدب في ذلك الوقت، ويطلب منه النصيحة لأعماله اللاحقة، رغم أن إسمه ككاتب، كان قد ذاع في ذلك الحين. ويجيب مؤلف (بستان الكرز)، كما المعلم المتسلط أمام تلميذه الموهوب، بكلام لا يخلو من الإنتقاد: quot;حاول، بقدر المستطاع، تجنب إستعمال الصفات والظروف (...) ولن يكون ذلك في لحظة تفكير معينة، والأدب يجب أن يسجل في لحظة واحدة، وفي الحالquot;.
وفي ذات الوقت، يمكن أن يلاحظ بين ثنايا الرسائل، إعجاب كل من غوركي وتشيخوف العميق بتولستوي، الذي كان يتبوأ، حينها، مكانة أدبية مرموقة، بسبب من أعماله الروائية العظيمة، مثل (الحرب والسلام)، و(آنا كارنينا). يكتب غوركي quot;في نهاية المطاف، أنها لحماقة إطلاق إسم عبقري على رجل ما. إنها قلة معرفة لا يمكن إستيعابها إطلاقاً. يمكن ببساطة شديدة، وبكل وضوح القول: تولستوي: إنها مقتضبة، وأصيلة تماماًquot;.
وترد في هذه الرسائل أسماء أخرى لكتاب ونقاد، هم اليوم، عملياً، في عداد النسيان، كما هو حال الكاتبين الروسيين، ومنذ أكثر من قرن.

مذبحة قازان

في اوائل القرن العشرين كانت روسيا تعيش في مناخاتٍ تسودها الروح الثورية. وكان يقيم نيكولاس الثاني في قصر الشتاء، وهو المكان الرسمي لإقامة القياصرة الروس، والشوارع في سان بطرسبرغ كانت تشهد الكثير من أعمال الشغب. وعلى الرغم من ذلك، لم يتردد غوركي، الذي لم يكن يتعاطف إطلاقاً مع هذه المدينة (إذ يكتب quot;عندما تلسع بعوضة إمرأة من سان بطرسبرغ، فأن الحشرة المسكينة تموت حالاً من المللquot;)، في أن ينضم الى المتظاهرين.
ويروي غوركي بحنق وغضب شديدين لتشيخوف، في رسالة مؤرخة في أواخر آذار من عام 1901، مذبحة المدنيين الوحشية، التي نفذها حرس القوقاز أمام كاتدرائية قازان في الرابع من آذار 1901: quot;هناك حوالي 70 طالباً في حالة يرثى لها، يتعرضون للضرب. أتوسل إليك، أنطون بافلوفيتش، أن تجمع المال (...)، لم تعد هناك من موارد هنا (...) والتحقيقات كشفت عن العدد الدقيق للضحايا: 62 من الرجال و34 من النساء (...) في الحياة، سوف أنسى هذه المعركة! (...) النصر أو الموت، ماذا يعني ذلك! ما يهم هو النضال، والنضال هو الحياة!
لم يرد تشيخوف على هذه الرسالة الغارقة في المشاعر الإنسانية، بسبب من أنها لم تتحدث عن الأدب. وفي ذلك، يشير روبين بوخانته الى أن مؤلف مسرحية (الشقيقات الثلاث)، quot;كان يفضل البقاء بعيداً عن النقاشات السياسيةquot;. لكنه، فعلاً، لم يقطع علاقته أبداً بالكاتب الثوري، وبلغ الأمر به الى أن يستغني عن منصب عرض عليه في أكاديمية سان بطرسبرغ للعلوم، إحتجاجاً على الإستبعاد الذي تعرض له غوركي بسبب من أنشطته السياسية.
ولم تخلُ الرسائل أيضاً، الى جانب الأدب والسياسة، من الحديث عن المرض (يكشف غوركي عن مرض جلدي مستمر، ويشير تشيخوف، بقدر كبير من التردد، الى مرض السل الذي كان يعاني منه، والى تردي حالته الصحية) والنساء. كان غوركي حينها متزوجاً ولديه طفلان. ويخبره تشيخوف بأنه متزوج من الممثلة أولغا كنيبر. وفي إشارة تنمّ عن كرهه للنساء يكتب غوركي: quot;الزواج شئ جيد، إذا لم تكن المرأة جاهلة أو راديكاليةquot;.
في العام 1904، كانت الرسائل قد توقفت بسبب وفاة أنطون تشيخوف.