عبد الله كرمون من باريس: كثيرا ما تراودني فكرة الحديث عن كتب نشرت قبل سنوات ولم يسبق لي أن أديت دين القول عنها، فأهب لذلك في لحظات موائمة له، مثلما سوف أفعل الآن تماما، إذ أرغب في إثارة موضوع الموتى الذين يمضغون ويعضعضون في غيابة قبورهم، وقد أُثير في كتاب لطيف أخرجته دار جيروم ميون في سلسلتها أتوبيا، ترجمته عن اللاتينية وقدمت له ووضعت حواشيه دانييل سونيه. كان الكتاب في أول عهده محاضرة ألقاها صاحبها ميكائيل رانفت باللاتينية بأكاديمية العلماء بليبزيغ، قبل أن ينشرها في سنتي 1725 و1728 على التوالي، في حين أعاد كتابتها بالألمانية سنة 1735 ونشرها بعد أن زاد عليها ونقحها.
يتناول رانفت في كتابه ظاهرة الموتى الأحياء مصاصي الدماء، وبما أنه فيلسوف لم يتخلص نهائيا من حرج التأرجح ما بين العقل والعقيدة، فإنه انتهج سبيلا تمزج بين معطياتهما كي يفسر وينتقد الخطاب المتداول شعبيا حول الظاهرة.
انطلق الكتاب من حادث أثار ضجة كبيرة في بلدة كيسولوفا بهنغاريا، يتعلق الأمر بالزعم بأن شخصا يدعى بيتر بلوغويوفيتش، والذي مات حديثا، كان مسبّبا في موت تسعة أشخاص آخرين من أبناء البلدة، ذلك أن كلا منهم قد أدلى بشهادات تؤكد أن ذلك الشخص بعينه حضر إلى فراشه وأعمل فيه أسنانه حد الاحتضار. أمر آخر أضفى تزكية على تلك الشهادات هو ما صرحت به زوجته نفسها، إذ تراءى لها في منامها يطلب منها أحذيته، معبرا لها عن رغبته الشديدة في مغادرة البلدة نهائيا.
سعى رانفت إلى تحليل تلك الظاهرة مشيرا في مقام أول إلى أنها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تمتّ بصلة إلى المعجزات الإلهية، لأن الأمر لا يدخل في الأبواب المشروعة التي تظهر فيه المعجزات حسب المنطق اللاهوتي، كما أكد أنها لن تكون أيضا من صنيع الشياطين، لذلك كان أمْيَلَ لأن يعتبرها من العمليات الخارقة للطبيعة وقوانينها الداخلية.
هناك مؤشرات كثيرة تحيط بشأن الموتى الذين يمضغون في قبورهم، ذلك أنه يتواتر عنهم أنهم يحدثون دوما صوتا لدى مضغهم، كما أنهم ينهشون أكفانهم بأسنانهم، وهم نساء في الأغلب، ولا يكونون سببا سوى في موت أقاربهم، ثم أنهم لا يظهرون إلا في أزمنة انتشار وباء الطاعون.
إن الخوف الذي ألمّ بأهل بلدة كيسولوفا من شبح بلوغويوفيتش المحدق بهم جعلهم يقررون فتح قبره والحد بذلك من شره، ما كان لهم فعلا، غير أن مشهد الجثة التي لم تتعرض لأسباب الفناء والتعفن أكد لهم مرة أخرى مخاوفهم، بل إن بعض الدم الذي ألفوه في فمه قد أفاض كأسها، إذا ما علمنا أن لحيته قد نبتت من جديد، وأن أظافره لم تتوقف عن النمو، كما أن عضوه الجنسي ظل منتصبا.
لم يغفل رانفت أن ينبه إلى كون الخيال هو منبت ذلك النوع من القصص، كما أن الخوف والهلع اللذين يستشعرهما المرء في بعض الظروف هما أصل تلك الأخيلة كلها. فإن كان يرى بأن الحواس هي أم العلم فإنه إن مسها الخلل أثرت سلبا على الدماغ وفقد خاصيته الأساسية، لأن مجرد ترديد ذلك النوع من الحكايات، وما أكثرها، كفيل بإحداث بلبلة في النفوس الضعيفة. لذلك فإن مصاصي الدماء هم في الواقع، كما أكدت دانييل سونييه ذلك، هم في الحقيقة أولئك الذين يختلقون تلك الأقاويل ويفْتَرون على الأحياء.
لهذا السبب نفسه أشارت سونييه إلى أن ظاهرة مصاصي الدماء خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر كانت مجرد وسيلة ملتوية لتصفية الحسابات العائلية. سوف نرى تبعا لذلك أن رانفت له تفسير قريب من هذا المعنى لعدم تعرض جسد بلوغويوفيتش في قبره لعوامل الفساد. من المحتمل أن يكون الرجل، كما رأى رانفت، قد مات مسموما، لأن الذين يموتون جراء تناولهم للسم لا تتعفن أجسادهم إلا بطيئا، أما أنف الرجل الذي تمت معاينة تكسره، فهو لم يكسر، وإنما تعرضت المادة الغضروفية التي يتكون منها عوضا عن العظم الصلب إلى تقلص، ما جعله يفقد بالتالي حجمه الأصلي ويبدو وكأنه منعدم.
لم يتخلص رانفت مع ذلك من بعض التحديدات من قبيل الروح والجسد، لكن قوله بأن افتراق الروح عن الجسد يعني موت الإنسان وليس موت الجسد نفسه، لا يخلو من طرافة، كما لم يعد، بذلك، أمر استمرار دبيب الحياة في بعض الأجساد بعد موت أصحابها غريبا. يقول غرمان فان هلموت في هذا الصدد بأن الشعر والأظافر ليست فضلات ولا حتى أجزاء من الجسم، وسر وجودها هو بالذات استمرارها في النمو.
ليست القصص التي تحكى حول المواقف المماثلة أقل غرابة، من قبيل الأصوات التي تسمع منبعثة من داخل القبور والتي تشبه القضم والنهش، أو الصراخ وغيرها، والتي يراد منها تزكية عمليات المضغ والنهش التي يركن إليها الموتى في قبورهم، في حين أن الواقع يفند ذلك، لأنه كثيرا ما يحدث أن يتم التسرع في تكفين شخص لم يتم التحقق كلية من موته.
غير ذلك هناك الجرذان والفئران التي تتخذ لها مثلها مثل الثعابين قبور الموتى بيوتا لها، وتعمل هذه الحيوانات على نهش الجثث، وتمزق الأثواب للكشف عن أعضائها لتيسير مهمتها.
في الأخير، وبغض النظر عن المعطيات والأمثلة الكثيرة التي يزخر بها الكتاب، فإن مروجو هذه الشائعات يجدون في هذا الأمر مادة وفيرة لدعم ادعاءاتهم، فيعمدون إلى اعتبار ما لا يقدرون على تفسيره، لقلة فطنتهم، على أنه من صنائع الجن والأرواح الشريرة.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات