بوجه شاحب و نظرة حائرة كانت تدخل الفصل لتوزع علينا أوراقا بيضاء و أقلام الرصاص. بعد أن تستريح في مقعدها تخرج إبرتين محاولة بأقل أخطاء ممكنة سحب خيط من كرة في قاع حقيبتها...
كنا نحن التلاميذ الصغار جنودها ضد عدو تجهله عقولنا المرتبكة أمام غموض علاقة بين شغل الإبرة و ما يملى علينا من أحداث تافهة...
بالتفاف الإبرتين حول الهواء توقف الإملاء لضبط الأمر مستغلة ذلك في التأكد من صحة التاريخ، و بانضباط مسار الإبرتين تخرج الأحداث دقيقة متتابعة من فمها إلى الأوراق:
مشاجراتها مع البقال خرب الذمة،
حماقات زوج عاش و مات دون الوعي بعشرات الأصابع تغتابه يوميا،
و كثيرا ما أبكتنا الحياة العاطفية المتوترة لابنتها الجميلة.
كانت تحفزنا بالحديث عن نقيصة بشرية من شأنها إشعال الكوارث و قصف الحيوات. و بخطوات مدروسة لقائد لا يلقى من جنوده إلا الطاعة العمياء كانت تسأل أحدنا عن أحواله بابتسامة تزداد جمالا إذا جاءتها الإجابة مختصرة و سريعة، كما وزعت علينا ذات مرة قطع حلوى ضاعف من سعادتنا عدم ورود أدنى إشارة لها في إملاءات اليوم التالي...
و حين سولت لنا نفوسنا إسقاط بعض الأحداث رحمة بأصابعنا طاردتنا صورتان لزوجها الساذج و ابنتها الجميلة و هما جثتان متفحمتان إثر الشروع في إعداد طعام سجلنا كل خطواته عدا إغلاق الموقد بعد خمس و أربعين دقيقة؛ مما أعادنا إلى المعركة كمحاربين شجعان قانعين منها بمتعة حكي ذكريات عجفاء و تبرير إصرارها على شغل الإبرة الذي تعلمته من أمها أو ربما جدتها الراحلة دون ترك صورة واحدة، فتجرأ أحدنا على السؤال عن مستقبل قطعة الصوف التي تكبر يوما بعد يوم... غاصت في شحوب وجودها و عادت إلينا بنظرة المتعرض لخيانة تصلبت لها يداها الباردتان و هما تكيلان لنا الصفعات.
الإسكندرية
[email protected]