شريف الشافعي: بينما تستعد مئوية عملاقنا الكبير صاحب نوبل نجيب محفوظ (1911-2006) لطرق الأبواب في الحادي عشر من ديسمبر المقبل، أجدني سابحًا في ذاكرتي، مسترجعًا كلماته المركزة، التي أجاب بها عن تساؤلاتي، في حوار كنت أحلم به طويلاً، وتحول إلى حقيقة صيف 1992، وكنت لا أزال أدرس الإعلام طالبًا في جامعة القاهرة.
كان قد مضى على فوزه بجائزة نوبل في الآداب أربع سنوات. اتصلتُ بمكتبه في جريدة الأهرام طالبًا تحديد موعد معه لإجراء حديث لـquot;صوت الجامعةquot;، وتوقعت آنذاك أن يُقابَل طلبي بالرفض، لكن الأستاذ فاجأني بالموافقة، وحدد لي الكاتب فتحي العشري (مدير مكتبه آنذاك) موعدًا للقاء أديب نوبل بعد خمسة أيام، حيث كان يذهب إلى مكتبه في مؤسسة الأهرام يوم الخميس مرة كل أسبوعين.

هكذا بكل بساطة وجدت نفسي أمام العملاق، وكان الدرس الأول هو ذلك التواضع الجم، الذي يضيف إلى الكبير، ولا ينتقص منه مثقال ذرة.
قام لي في هدوء، مستندًا على عصاه، وصافحني بحرارة. جلستُ بجواره، فأعطاني أذنه ونظر إلى الأمام، بينما رحت أنظر إليه بتركيز شديد.

وقتها سألته عن خير وسيلة لمقاومة المدفع، وكانت العمليات الإرهابية قد بدأت في الامتداد في أحياء القاهرة لتنال من أمنها وتهدد أهلها، فقال لي: quot;خير وسيلة لمقاومة المدفع تحطيمه، فصلاح الكون في أن يتنبه للتكنولوجيا التي تسعده، وأن يخرج من طور القتال والوحشية إلى السلام الدائمquot;.
سألته عن مدى إيمانه بالكلمة، تلك التي قد بدأت تتلاشى وسط موجات العنف وطوفان الضجيج، فقال: quot;الكلمة الحقيقية لا يمكن أبدًا أن تنهزم أمام أي شيء، فهي قد تتعثر أحيانًا، وقد يعلو عليها الضجيج أحيانًا أخرى، لكن قوتها الذاتية وما تحمله من حقيقة يجعلها تبقى على مر الزمن، والانتصار للكلمة في النهاية بدون شكquot;.

وأضاف بثقة: quot;لنا أن نتذكر أن الخير والشر في جدال وصراع أبديين منذ خلق الإنسان، لكن الواقع يؤكد أن الخير هو الأكثر، وأن النصر له، بدليل أننا نحيا إلى الآن، ونصنع هذه الحضارة كلهاquot;.
سألته عن لحظة فوزه بنوبل، فقال لي (وذلك قبل فوز العالم المصري الدكتور أحمد زويل بجائزة نوبل في العلوم): quot;كنت أرجو أن يفوز عربي بجائزة نوبل في فرع من فروع العلم، فإذا حدث ذلك سيتحقق الحلم الكبير، وسينفتح أمامنا الباب الذهبي للدخول في العصر، عصر التحديث والتقدمquot;.

سألته عن الشائعات والاتهامات التي تعرض لها في حياته، فأجابني بهدوء: quot;أول ما تعرضت له من نقد أنني أديب البرجوازية الصغيرة، أي أنني ضد الطبقات الكادحة من العمال والفلاحين، ولست ضد أحد بالطبع. واتهمت بأنني لا أستخدم العامية في رواياتي بجوار اللغة الفصحى، وكأنني أديب فئة دون أخرىquot;.
أما أغرب الاتهامات، والكلام له، فقد كان بعد فوزي بنوبل، حيث اتهمتني بعض التيارات بأنني أخذت الجائزة مكافأةً على رواية ملحدة، وقال آخرون إن الجائزة كانت بسعي من الصهيونية العالمية لأنني من أنصار كامب ديفيد، والحقيقة أن الروايات التي نوهت بها لجنة نوبل كانت حوالي ست روايات، آخرها هذه الرواية التي اتهموها (أولاد حارتنا)، فلم تكن الجائزة على رواية واحدة.

واستطرد محفوظ بلهجة مستنكرة: quot;لا أدري ما تأثير الصهيونية العالمية على لجنة نوبل؟ وإذا كان لها تأثير، فهل تكون مكافأتي على تأييدي لكامب ديفيد بعد عشر سنوات من الاتفاقية؟! إنها للأسف الشديد أقوال محرفة ترددت دون منطقquot;.

سألته عن شخصيات رواياته، وهل هي حقيقية في معظم الأحوال كما يشيع المقربون، أم متخيلة، فقال: quot;كل شخصية عندي هي مزيج من الحقيقة والخيال، فالفن يتطلب قدرًا مناسبًا من التصور، مع عدم الانفصال عن الواقعquot;.

سألته عن أفضل الألوان، فقال بتلقائية: quot;الأخضرquot;، وأفضل يوم في الأسبوع فقال: quot;الخميسquot;، وأفضل صوت غنائي فقال: quot;عبد الوهاب وأم كلثوم وسيد درويش ومنيرة المهديةquot;، وأفضل طعام فأجاب: quot;الملوخيةquot;! وعن أمنياته الأدبية آنذاك قال: quot;إنشاء مؤسسة كبرى للترجمة تابعة للجامعة العربيةquot;.
الرجل، أبى في النهاية إلا أن يردد حكمته المفضلة قائلاً: quot;اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًاquot;. وبسؤاله عن آخر ما يطلبه ويتمناه قال بالحرف: quot;زيارة الأراضي الحجازية، وحسن الختامquot;.


شريف الشافعي، شاعر وكاتب مصري، صحافي بالأهرام
[email protected]