ذات مرة وصف أدونيس العرب بأنهم يعيشون بأجسادهم في القرن العشرين فيما يعيشون بأرواحهم وعقولهم في العصور الوسطى. ربما لم تتجلى هذه المقولة بمعناها الحقيقي مثلما تتجلى عليه اليوم.
فمنذ بداية العام الماضي اندلعت ثورات الربيع العربي لتجعل من الشعوب العربية في مركز اهتمام العالم الحديث، بطريقة أعادت لهذه الشعوب بعض الاهتمام بعد أن كانت المنطقة العربية حاضنة خطيرة لثلاث ملفات ظل العالم ينظر إليها بمعزل عن احترامه لشعوبها.
ذلك أن قضايا الإرهاب والنفط وأمن إسرائيل شكلت بؤرة الاهتمام الدولي لهذه المنطقة لزمن طويل، حتى يئس الكثيرون من إمكانية يقظة هذه الشعوب نحو القيم التي تأسس عليها العالم الحديث. وكان الاستعصاء الذي كشف عن انسداد رهيب لهذه المنطقة في وجه رياح التغيير بمثابة معضلة مركبة أرقت الكثيرين من مفكري العالم العربي، فيما دعت بعض اليائسين إلى استخدام القوة لإدخال هذه المنطقة في الحداثة الكونية، كما زعم ذلك بعض مفكري المحافظين الجدد في العقد الماضي من أمثال برنارد لويس وفؤاد عجمي وغيرهم.
والحال أن ما يجعل من الحداثة دلالة على شعب ما إنما يكون بالعيش في نسق من القيم الكونية التي تعلي من إنسانية الإنسان، وتجعل منه كائنا موضوعيا لا يقبل القسمة على أحد، ولا يمكن أن تتجلى هذه القيمة العليا للإنسان في صورتها الجماعية إلا من خلال الديمقراطية كرهان عقلاني ناظم لعلاقة الأفراد بمن يحكمونهم. حيث أن علامة الرشد السياسي لأمة ما لا يمكن معرفتها في الأزمنة الحديثة إلا من خلال التداول السلمي للسلطة.
وهكذا حين أدرك العرب هذا المعنى المتقدم للحياة في العصور الحديثة اندلعت الثورات في أكثر من دولة، لتكشف بما لا مزيد عليه كيف أن حكام هذا الجزء من العالم المسمى عربيا إنما هم في حقيقة الأمر كائنات من العصور الوسطى. فهذه المرة انكشفت ورقة التوت أمام هؤلاء الحكام لتضعهم أمام حقيقتهم القروسطية المتخلفة عبر الكثير من وسائط الإعلام التي وفرتها ثورة الاتصالات والمعلومات. فسيل الدماء الذي لايزال يجري في سوريا والموت المجاني الذي يغتال أرواح الأبرياء يدل دلالة واضحة على تلك المعادلة التي يكشف عنها التخلف والتي هي من صميم علاقة الحكام في القرون الوسطى مع شعوبهم: إما أن أحكمكم أو أقتلكم.
لقد كان واضحا منذ البداية في تونس أن العار السياسي الذي ظل علامة واضحة للعرب والأفارقة هو الاستبداد، وأن الرهان الحقيقي للانتقال إلى العصور الحديثة يكمن تصفية الاستبداد، لاسيما في ظل الانفجار المعرفي الذي وفرته الوسائط الإعلامية المتعددة، بعد أن أصبح ذلك الاستبداد تركة ثقيلة ولابد من التخلص منها مهما كان الثمن.
ثمة افتراض يظن كثيرون من خلاله أن مجرد استعمالهم للوسائط التقنية التي أتاحتها الحداثة هو بذاته علامة على انخراطهم في العالم الحديث.
ولقد نشا هذا الوهم الذي تعرضنا له في مقال سابق بعنوان (زمن الأصداء) في الحياة العربية من تسويق الإعلام المضلل لاسيما في الأنظمة القمعية، بحيث احتلت الفضاء العام للشعوب في هذه المنطقة اهتمامات ذات تمثلات مشوهة للنشاطات الرياضية، وكم هائل من المسلسلات والأفلام والمقولات السياسية الجوفاء لشعارات الأنظمة العربية التي كانت تضخ صباح مساء كلمات متخشبة مثل: السيادة، الشعب الدستور، الدولة دون أي مفاعيل لها في واقع وحياة هذه الشعوب.
واليوم مع اندلاع ثورات الربيع العربي أدرك الناس تماما الفرق الكبير بين شعارات بن علي الجوفاء في تونس ما قبل الثورة مثلا حول السيادة وحكم الشعب... وبين ما يحدث اليوم في ذلك البلد من إعادة تعريف حقيقية بتلك المفاهيم
إن الشعور بالتماهي الخادع مع الحراك العالمي وحضور الملفات العربية المتصلة بالإرهاب والنفط وإسرائيل في الساحة الإعلامية العالمية، لا يعني أن الشعوب العربية داخل العالم، أي إحدى القوى الفاعلة فيه، إذ أن في ذلك تسطيح للعلاقة الصحيحة مع العالم. بمعنى أن شرط التفاعلات الإيجابية ليس بالضرورة ان يكون في تلك الصورة الخادعة التي نتمرأى فيها أمام العالم، بقدر ما هو في إنجاز تحولات و استحقاقات ضرورية لا تغني عنها الآيدولوجيا. فلن يكون أحد داخل العالم الحديث ما لم يكن فاعلا فيه على المستوى التأثير والتأثر الإيجابي. وهذا تحديدا ما حدث لأول مرة للعرب في العام 2011 وكان ذلك بمثابة إعلان حقيقي لدخول العرب في العصور الحديثة.
هكذا رأينا مع بزوغ الربيع العربي خريف القاعدة وأفولها، لأن القاعدة في جوهرها كانت تدعي حيازة توكيل كاذب عن الشعوب العربية، فيما هي نبت سام لأزمنة القمع والظلام والخوف. وحين تقدمت الشعوب العربية للإمساك بمصيرها السياسي دون وكالة من أحد بدا حال القاعدة كحال اللص الذي انكشف أمام صاحب الحق.
لهذا لم يكن غريبا أفول القاعدة ورحيل زعيمها أسامة بن لادن في تزامن مع ثورات الربيع العربي، أما زعيمها الآخر أيمن الظواهري فلا أشك أنه اليوم يعض أنامل الحسرة بعد أن انحسرت عنه أضواء الإعلام التي كان يعشقها، وأبصر أصحاب الحق الذي كان يدعي تمثيله عنهم زورا وبهتانا، يملئون شاشات التلفزة في مواجهة شجاعة وعلنية ضد الحكام المجرمين. وليس غريبا كذلك أن الحق الواضح ينازل الباطل في ضوء النهار المكشوف وبالسلم ضمن كافة أطياف الشعب، لا من خلال أفراد في كهوف تورا بورا حيث الظلام ولا بالإرهاب كما تفعل القاعدة.
السِّتْرُ دُونَ الفَاحِشَاتِ وما * يَلْقَاكَ دُونَ الخَيْرِ مِنْ سِتْرِ
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات