ماحدث يوم أمس في برنامج الاتجاه المعاكس الذي يديره الإعلامي السوري فيصل القاسم بقناة الجزيرة القطرية، كان سابقة خطيرة فضلا عن كونه انعكاسا عنيفا لسخونة الأحداث التي تدور في سوريا، سواء على جبهة المواجهة الميدانية، أو على الجبهة السياسية، أو على صعيد جلسة مجلس الأمن في نيو يورك. وإذ نصف ماحدث بأنه انعكاس عنيف في تلك الحلقة من برنامج الاتجاه المعاكس لا يعني ذلك تخفيفا لما جرى من تجاوزات خطيرة في سمعة الإعلام العربي ؛ فما جرى كان خطيرا جدا، ويعد بمثابة سابقة سيئة في هذا البرنامج الذي ظل باستمرار مرشحا لمثل الذي حدث فيه يوم أمس.
فقبل أشهر كاد أن يحدث مثل ذلك في الحلقة التي استضافت السوري quot; شريف شحادة quot; واللبناني quot; المشنوقquot;، حينما نهض شريف شحادة متحركا نحو المشنوق في محاولة لتحويل العراك من الكلام إلى الفعل، لولا أن تمالك نفسه في اللحظة الأخيرة
أما في حلقة الأمس، فبعد ملاسنات شنيعة بين جوزيف أبي فاضل، ود. محي الدين اللاذقاني قام جوزيف أبي فاضل تحت تأثير الانفعال بما قاله محي الدين اللاذقاني، وتوجه لهذا الأخير محاولا الاعتداء عليه بالضرب ما أدى إلى حجب الصورة عن المشاهدين وسط سماع أصوات العراك بالأيدي في لحظة كشفت لنا عن مدى الإفلاس الذي أصاب عناصر الشبيحة الإعلامية للنظام الأسدي، وكأن هناك توجيه من النظام الأسدي لشبيحته الإعلامية بتصعيد المواجهة بالأيدي في موازاة العنف الهستيري الذي أصبح يشنه على الشعب السوري.
إن ما قام به جوزيف أبي فاضل لا يمكن أن يقبله أحد؛ فالاعتداء بالضرب باليد نتيجة لمواجهة كلامية مهما كانت عنيفة، هو ضرب من الخرق والحمق الذي لا يليق بمجرد الفرد العادي فضلا عن شخص يدعي الكتابة والبحث. لكن الفارق هنا يكشف عن جانب مظلم من نفسية الذين يقفون مع النظام الأسدي، فهي بالفعل نفسية تميل للعنف والقابلية للاستفزاز المؤدي للعنف الجسدي، دون أي اعتبار لحرمة واحترام الآخر، أو احترام القانون والضيافة وما إلى ذلك من اعتبارات.
إن ماجرى من اعتداء على الدكتور محي الدين اللاذقاني على الهواء مباشرة وتحت عين الملايين من المشاهدين لا يجب أن يمر هكذا دون اتخاذ إجراءات تضمن له حقوقه، سواء من دولة قطر، أو من قناة الجزيرة.
فقد كان ذلك الاعتداء في تأويل آخر صورة رمزية لطبيعة العلاقة بين أتباع النظام وأتباع المعارضة كشفت تماما عن الإفلاس والانحدار الأخلاقي لشبيحة النظام الأسدي وأزلامه من الكتاب الذين دلت محاولات اعتدائهم على أزمة ضمير مستحكمة حيال ما يجري في سوريا، فهم بموالاتهم العمياء لم يكتفوا بالفضيحة الأخلاقية لكلامهم الكاذب دعما للنظام القمعي في سوريا ؛ وإنما يحاولون الاعتداء جسديا على خصومهم في محاولة لإسكاتهم ناسين أنهم بذلك إنما يعبرون عن إفلاسهم أمام الملايين من المشاهدين والمتابعين.
وإذا تساءلنا اليوم هل ماجرى يوم أمس في برنامج الاتجاه المعاكس كان متوقعا حدوثه ؟ سنجد أن ذلك بالطبع كان متوقعا، تماما كما يتوقع الشخص نهاية الشتائم والمشاداة الكلامية في الحواري الشعبية.
فذلك البرنامج الذي ظل يتحفنا بأرباع المثقفين المتأدلجين ويعجز دائما أن يقدم لنا مواجهات ومناقشات مرموقة في الشأن العربي تحترم الطبيعة المعرفية والفكرية لقضايا العرب ومشكلاتهم، ومن ثم تحترم المشاهدين الذين يتابعونه بالملايين في مختلف أنحاء العالم العربي، لم يستطع الاستفادة من مناخ الثورات العربية والتغييرات التي حدثت في الواقع العربي. كما لم يستطع الاستفادة من النماذج النادرة التي قدم من خلالها أداء متميزا عبر استضافة مفكرين جادين.
ولعل مما يعجب له المرء هو : لماذا لا يستضيف هذا البرنامج ضيوفا يحترمون عقل المشاهد العربي ويقدمون له مناقشات جادة وعميقة عن قضاياه الراهنة ؟ هل هناك تلازم شرطي مثلا بين حدة النقاش وبين الشتائم والملاسنات؟ ألايمكن مثلا أن تكون هناك نقاشات حادة ومثيرة مثلا في قضايا عربية راهنة ومن قبل ضيوف يتمتعون بقدرات معرفية خلاقة في إدارة النقاش الحاد؟
دائما يحاول هذا البرنامج أن يوحي لنا بتلك العلاقة المشروخة بين حدة النقاش والملاسنات الآيدلوجية، لنفهم من ذلك أن (الجمهور عاوز كده) على ماتقول لازمة مصرية مشهورة.
بالتأكيد هناك من المفكرين العرب ممن يعتذرون عن المشاركة في هذا البرنامج بسبب ما وصل إليه من تدني في مستوى الضيوف، وبالتأكيد أن من القائمين عليه هناك ممن لا يعجبهم بعض المفكرين والكتاب المحترمين لمجرد الاختلاف معهم أو نتيجة لاستضافتهم مرة واحدة مثلا ؛ كتلك الحلقة الشهيرة قبل سنوات التي كشف فيها الكاتب اللبناني المرموق إبراهيم العريس تهافت أفكار ومزاعم الدكتور أسعد أبو خليل الذي كان أحد نجوم البرنامج، فحشره في خانة فاضحة من العجز جعلته أبكما ؛ حتى أن معد البرنامج فيصل القاسم خرج عن طوره ووجه كلاما قاسيا لأسعد أبو خليل الذي خذله أمام الحجج العقلانية المتماسكة للأستاذ إبراهيم العريس وهي حلقة بالتأكيد كشفت لمعدي البرنامج فداحة استضافة ضيوف من طراز مرموق لهم رؤى عقلانية ومتماسكة بدلا من الردح والسباب الآيدلوجي لأنصاف المثقفين الذين يستضيفهم البرنامج. وبالرغم من أن هناك بعض الحلقات تعتبر استثناء في تاريخ هذا البرنامج، إلا أن البرنامج ظل باستمرار برنامج لا يكاد المشاهد يخرج منه بفكرة مفيدة من الأحاديث البهلوانية لأولئك الهواة منquot; المفكرين والمحللينquot; وكأن الاستفزاز المستمر للمشاهد هو عنوان هذا البرنامج.
[email protected]