في ظل تداعيات الثورة السورية، ومسار العنف الي جره إليها النظام المجرم، والوقائع الفظيعة من مجازر ومذابح بحق المدنيين تنشأ الكثير من التساؤلات، وعلامات الحسرة ــ تلك التي تستغلها بعض الأنظمة العربية في توظيف ثبات أوضاعها ــ لدى مختلف الفئات، لاسيما السوريين، وتتضاعف تلك الحسرة لدى كثيرين أضاعوا بوصلة التأمل المفضي إلى القبض على حقيقة المعنى وراء كل تلك التداعيات المفجعة ؛ ليقعوا في اليأس والإحباط.
صحيح أن الوقائع الآن في مسار العنف الاضطراري الذي يخوضه الجيش الحر وكتائب المعارضة السورية، تشير إلى الكثير من الخراب وشبه الفوضى، والعذابات اللامتناهية لفئات المجتمع السوري؛ لكن الأكثر صحة : أن هذا النظام المجرم هو السبب الأصلي والأولي في ذلك العنف والخراب الذي يتداعى على خلفية الصراع الدموي في سوريا. وسيكون من العبث التفكير عن معنى لهذه الأوضاع الخطيرة التي تمر بها سوريا بدون إدراك هذه الحقيقة البديهية، والتي تغيب عن كثير من الأذهان بفعل الوتائر المتسارعة للموت والخراب والتفسخ الذي يلف الوضع في سوريا.
ثمة سبب آخر يفسر ذلك الذي يحدث الآن من خراب ودمار في صيرورة الثورة السورية، وهو : البنية التاريخية للاستبداد في هذه المنطقة، وهي بنية لا يمكن الخروج منها إلى الحرية إلا عبر التحلل من عقابيلها وآثارها المكلفة. فلنتساءل مثلا : ما الذي يجعل شخصا مثل بشار الأسد يتصرف حيال الشعب السوري في مطالبه المشروعة نحو الحرية والرشد السياسي بمثل هذا العنف والقتل والدمار المديد ؟ هل كان من الضروري أن تؤدي الاستجابة لمثل هذه المطالب المشروعة إلى هذا الخراب، لولا بنية الاستبداد التي عششت لقرون على تصورات الناس في هذه المنطقة، والمتمثلة في سكوتهم عن الظلم المتطاول من ناحية، وإحساس بشار نتيجة لذلك بأن ما يقوم به من قتل ومجازر ردا على تلك المطالب بأنه الواجب والتصرف الطبيعي ؟ سنجد انفسنا، حين نتأمل في هذه الحالة، أمام استحقاق طويل لتصفية الاستبداد، ومخاض عسير وضروري للخروج منه.
قد يبدو هذا الكلام في ظل الكلفة الدموية الهائلة للموت والدمار المصاحب لمقاومة هذا النظام المجرم أشبه بحديث خارج السياق، لكن لا مفر من ذلك لكل متأمل إذا أراد أن يقف على المعنى الذي يدل عليه الصراع في هذه الثورة بالرغم من كل ذلك الخراب . وإذا كان القتل والسحق هو مصير من يطالب بشروط العيش الكريم؛ فإن أول ما يتبادر في ذهن كل متأمل حصيف هو أن هذا المصير كان سيأتي عاجلا أم آجلا، في ظل البنية التاريخية للاستبداد مادامت هناك ضرورة للخروج من ذلك الاستبداد الذي يحول الحياة الإنسانية إلى جحيم. والحقيقة هي أن مواجهة ذلك الاستبداد والإصرار على الخروج منه بهذه الأكلاف الفظيعة إنما هي الضمانة الوحيدة في المستقبل لمنع عودته، وقطع الطريق عليه. وإذا ما تساءل البعض هل تحقيق تلك المطالب المشروعة يستحق كل هذه التراكمات الخطيرة من القتل والدمار والدماء، فإن الإجابة لن تكون بمثل هذه المقابلة المباشرة بين الطرفين؛ لأنه إذا سلمنا، بديهةً : أنه لا يختلف شخصان على أن ما يليق بمطلق البشر لكي تصبح حياتهم ذات معنى، وقيمة هو؛ فقط : الحرية والكرامة، والعدل، وإذا ما بدا أن ثمة نظام يمنع تحقيق هذه القيم الضرورية للإنسان بالقتل والتدمير والمجازر الفظيعة، فهل يمكن أن تكون الآثار المدمرة لفعل القتل والذبح والخراب الواقع عليهم من النظام سببا لتغيير تلك البديهية ؟
ما يمكن أن يفسر لنا حالة الاحباط واليأس التي تصيب فئات من السوريين لا سيما بعض المثقفين والمثقفات منهم؛ هو فقط تأويل الجانب الشخصي لذلك الخراب، فالإحساس بالخراب على المستوي الشخصي لذاكرة فرد ما حيال وطنه احساس فظيع. وإدراك آثار ما بعد الحرب والخراب في الحياة المستقبلية للناس أمر أفظع، لكن ذلك لا يمنع أبدا رؤية المعنى البديهي لضرورة الثورة ــ رغم أكلافها تلك ــ والذي يغيب أحيانا بفعل تطاول الموت والخراب، وتجدد الأحداث الفظيعة. قد لا يكتمل تصور المعنى في التناقضات التي يفجرها الصراع، لكن جزء من إدراك ذلك المعنى يرتبط بالصيرورة والنتائج الاستراتيجية للثورة.
هذا ما حدث لجميع الثورات التاريخية، وهذا للأسف هو ثمار الخبرة الإنسانية في تصفية الاستبداد في كل زمان ومكان. ويمكننا أن نقرأ،على سبيل المثال، مشاعر المبدعين الفرنسيين من أمثال الشاعر الكبير آرتور رامبو وخيباتهم السوداوية على فشل ثورة كومونة باريس التي راح ضحيتها الالاف في سبعينيات القرن التاسع عشر بعد أكثر من نصف قرن على قيام الثورة الفرنسية. لكننا وبنفس القدر يمكننا اليوم إدراك النتائج الاستراتيجية والتاريخية للثورة الفرنسية على الأجيال التالية، وما تتمتع به فرنسا اليوم من حرية ورفاهية نتيجة لتلك التضحيات الضرورية في المسار التاريخي لثورتها. إن الإبقاء على جذوة المعنى في خضم الخراب، والذي ينبغي أن يكون رهان المثقفين المتفائلين، هو ما يمنح الأمل الحقيقي بالنجاح في هذه الثورة السورية العظيمة.