ما يحدث في مصر الآن بعد تولي الاخوان المسلمين للسلطة، يجعل الفرز السياسي حول الثورة، وأجندتها أكثر وضوحا، سواء بالنسبة للإسلاميين بمختلف أطيافهم، أم بالنسبة للقوى الحزبية والسياسية الأخرى.
فمن الواضح أنه بعد شروع الرئيس محمد مرسي في تبني العديد من القرارات الأحادية على مراحل مختلفة والتي انتهت بالإعلان الدستوري الأخير، اختفت تقريبا تلك الخلافات التي برزت على السطح بين الإخوان والسلفيين. كما اختفت في الوقت عينه تلك العلاقة التي سادها تفاهم مبهم بين المرشح الرئاسي الإسلامي المعتدل عبد المنعم أبو الفتوح، وبين القوى الحزبية والسياسية المدنية الأخرى.
وهكذا يمكننا القول أنه كلما توغل الاخوان المسلمون في تجريب مقاربتهم الملتبسة للسلطة ــ وهي مقاربة كنا قد أشرنا إلى عواقبها المتوقعة في مقال لنا بهذه الصفحة عشية الانتخابات المصرية الأخيرة قبل ستة أشهر، تحت عنوان quot;الثورة المصرية بين شفيق ومرسيquot; ــ كلما كان الفرز السياسي لقوى الثورة في مصر يأخذ طابعا أكثر تحديدا.
ولأن الخطأ الأكبر كان نابعا من عجز الفرقاء المختلفين عن رؤية مرحلة الانتقال السياسي التي تمر بها مصر على أنها مرحلة تحتاج إلى استحقاقات سياسية ذات طابع سيادي، فقد حسب كل فريق أن رهانه الوحيد نحو السلطة هو بمثابة الحل الذي ستفضي إليه نتائج الثورة السياسية.
ومع أن هذا العجز كان واضحا منذ البداية في غياب التحالفات عن المعركة الانتخابية الأخيرة، سواء بالنسبة للإخوان المسلمين أو القوى السياسية الأخرى من حيث رؤيتهم المضطربة لطبيعة المشاركة السياسية؛ فإن العائق الأكبر الذي نجمت عنه هذه الانسدادات في عملية الانتقال الديمقراطي في مصر الآن هي ردود فعل الفرز الآيدلوجي الذي انعكس حتى على معنى المسؤولية الوطنية، بوصفها شعورا مجردا وغير قابل للتمثل في برنامج سيادي يحقق الانتقال الديمقراطي في مصر ما بعد الثورة.
ولهذا فإن حدود الفرز الآيدلوجي هي التي عمقت طبيعة الصراع، وحددت مساحات القوى السياسية بصورة أكثر في التعبير عن إرادة الشعب المصري.
وهذه الحدود هي التي استدعت التحالفات اليوم بين القوى السياسية في مصر بعد انكشاف الواقع السياسي أمامها تماما.
وهكذا حين نرى اليوم الإخوان المسلمين مع السلفيين، مع حزب الوسط بالإضافة إلى مجموعة عبد المنعم أبو الفتوح من ناحية فيما يشبه تواطئا أو تحالفا بينها حول مسودة الدستور بما يتضمنه من رؤية ما للشريعة الإسلامية. وحين نرى في الوقت عينه القوى السياسية الأخرى تصطف معا في (تحالف الجبهة الوطنية) ضد الإعلان الدستوري الأحادي الذي أصدره الرئيس مرسي، سيبدو لنا الوضع مقلوبا تماما؛إذ أن هذا المشهد الذي بدا متأخرا جدا، هو ما كان يتطلبه الواقع السياسي غداة الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أدت إلى فوز مرسي.
إن المؤشرات الآيدلوجية لهذا المشهد الذي بدا واضحا اليوم حول مصير الانتقال الديمقراطي في مصر، ستظل باستمرار العائق الأكبر، ليس فقط للوصول إلى الانتقال السياسي فحسب؛ بل وكذلك للوصول إلى الإجماع الوطني الذي يقتضي الحدود الدنيا المانعة من ذلك الانقسام الراسي حول هوية مصر ذاتها، وما يمكن أن يترتب على ذلك من أسباب عدم الاستقرار.
إن ما تشهده مصر اليوم هو انعكاس سياسي للوعي الآيدلوجي بين معسكرين في مرحلة حساسة من تاريخها.
ولأن الآيدلويجا هي نمط نسقي في الرؤية السياسية فإن الانسداد السياسي سيكون هو نهاية هذا الانقسام، وهو انسداد ربما يستدعي انتخابات مبكرة كحل للخروج المؤقت من الأزمة.
بيد أن ما يعيق الانتقال الديمقراطي في مصر إلى جانب ذلك الانقسام الآيدلوجي يكمن أيضا في غياب انتظام مواقف القوى السياسية ضمن المعايير المؤسسية للعمل السياسي في ردود أفعالها. ولأن غياب هذا الانتظام ربما كان ــ في صورة منه ــ نتيجة لحداثة العهد بالممارسة السياسية الحرة بعد أكثر من نصف قرن على الحكم الفردي، إلا أن هذا الانقسام سيظل بمثابة الهوية المجتمعية لمصر مؤقتا.
ذلك أن العجز الذي تفرضه الرؤية الآيدلوجية حيال ترتيب الحد الأدنى من التوافق على الثوابت السيادية للعمل السياسي، سيظل قائما، لأنه ــ في صورة من الصورــ شكل من أشكال التخلف الذي يعكس تشويشا واضطرابا في وعي تلك الثوابت السيادية الضامنة لسلامة العمل السياسي بوصفه ممارسة ديمقراطية مؤسسية وغير قابلة لذلك الانقسام المعيق لمسار الانتقال الديمقراطي.
إن ما يحدث في مصر الآن، سواء بالنسبة للمعارضة وأحلافها، أم بالنسبة للإخوان المسلمين وأحلافهم، هو تمثلات مضطربة للتجريب السياسي في فضاء عام ظل محتكرا لحساب أنظمة دكتاتورية، جعلت من بديهيات الانتقال السياسي بعد الثورة مخاضا عسيرا ومضطربا، دون أن يكون كذلك بطبيعة الحال.
[email protected]