في نهاية الأسبوع الماضي عقدت الحركة الإسلامية السودانية، مؤتمرا كبيرا حشدت له ــ عبر الدعم الحكومي إعلاميا وماليا ــ واستضافت مجموعة من قادة الحركات الإسلامية في المنطقة العربية، مثل محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين، وخالد مشعل، وراشد الغنوشي وغيرهم. بيد أن المفارقة الكبرى كانت في غياب حسن الترابي: الأب الروحي والتاريخي للحركة الإسلامية في السودان. قد لا يعينا الآن ذلك الجدل الذي ثار في المؤتمر حول استقلال الحركة الإسلامية عن السلطة الحاكمة بقدر ما يعنينا: التأمل في المأزق الأخلاقي الذي وصلت إليه الحركة الإسلامية في السودان بعد أكثر من 23 عاما من الحكم المنفرد؛ انقسم خلالها السودان، وانتشر فيه الفساد، وانهار التعليم، ونجمت فيه الحروب الأهلية الجزئية في كل من دارفور وكردفان والنيل الأزرق، وانهار فيه سعر العملة الوطنية إلى مستويات غير مسبوقة، وأصبح رأس النظام في الخرطوم شبه مشلول سياسيا ودوليا بفعل تداعيات مذكرة الاعتقال من المحكمة الجنائية الدولية. وأخير الضربة الإسرائيلية لمصنع اليرموك إلى غير ذلك من الكوارث التي نتجت عن تجربة الحركة الإسلامية في الحكم عبر الانقلاب الذي قامت به منذ 23 عاما.
كل هذه الكوارث التي نجمت عن تجربة الحركة الإسلامية السودانية في الحكم كان يمكن أن تكون أكثر من كافية لإعادة النظر في هذه التجربة ومحاكمتها أخلاقيا لو كان هناك من يهتم بالمعنى الأخلاقي للإسلام بين الذين نظموا هذا المؤتمر. لكن يبدو أن هناك أهدافا أخرى للمؤتمرين مفاد التأمل فيها يدل على أن هاجس الفشل الكبير والخطايا التي وقعت فيها تلك الحركة بذاتها سببا للمزيد من الهروب نحو الأمام. وكأن المزيد من ضخ الآيدلوجيا والشعارات كاف لتوهم ذلك الهروب. وإلا فما معنى أن يقول الأستاذ علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية، والأمين العام للحركة الإسلامية، مخاطبا المؤتمرين (ان الحركة الإسلامية السودانية تتعاهد مع نظيراتها في العالم لإعداد مشروع اسلامي جديد، نصرة للمستضعفين من المسلمين وتحرير القدس وتحرير فلسطين، وكسر شوكة المعتدين. لا مجال للصمت ثانية كفانا ذلاً وهواناً واستضعافاً،فلنرفع الصوت عالياً لا للأمم المتحدة ولا لمجلس الامن ان المشروع الاسلامي الجديد يأتي لإحياء منظمات الامة وتحريك الشعوب الإسلامية ان الاسلام قادم من السودان وآت من مصر ويزحف من ليبيا ونيجيريا.) صحيفة الصحافة السودانية.
إن مثل هذا الحديث المليء بالشعارات والإدعاءات التي يفضحها الواقع هو الذي أدى بالسودان إلى الكوارث التي يعيش فيها السودان اليوم. وهكذا إذ تبدو مثل هذه الأحاديث الهوائية لا تزال تغري الكثيرين من أعضاء الحركة الإسلامية في السودان فإن مؤشراتها تدل فقط على المزيد من الهروب إلى الأمام بدلا من مواجهة الواقع المرير. وإلا كيف بمن يدعي تحرير القدس أن يكون عاجزا عن رد العنوان الذي أصابه في عقر داره من طرف إسرائيل أكثر من مرة ؟!
وبدلا من الشجاعة والاعتراف بالعجز والإدانة الأخلاقية لممارسة الظلم من خلال السلطة الانقلابية الغاشمة لنظام الإنقاذ، عادوا مرة أخرى للحديث عن الشعارات وبيع الأوهام لصرف الأنظار عن الواقع الحقيقي وما يعيش فيه النظام من تخبط.
كان ينبغي لمؤتمر الحركة أن يقدم نصائح وعظات لأصحاب التجربة الجديدة وقادتها في كل من مصر وتونس، من واقع التجريب المرير للشعارات الإسلاموية التي دمرت السودان وجعلته دولة فاشلة بامتياز.
وبالرغم من أن هناك اختلافا في طريقة الوصول إلى السلطة بين الحركة الإسلامية السودانية من ناحية، وبين الحركة الإسلامية في تونس ومصر من ناحية ثانية، إلا أنه كان من واجب الحركة الإسلامية السودانية أن تقدم خلاصة أخلاقية للتجربة في السلطة، والثمار المرة التي نتجت عنها؛ لا أن يتحدث علي عثمان بمثل تلك الطريقة التي تمثل استفزازا للشعب السوداني، وتغريرا بتلك التجارب الجديدة في كل من مصر وتونس لإعادة انتاج مأزق الحركة في السودان.
بيد أن ما لم يكن خافيا في هدف هذا المؤتمر هو محاولة التماهي مع تجربة مصر وتونس لإخفاء العجز والفشل النهائي المريع الذي وصل إليه نظام المؤتمر الوطني ففي التماهي مع كل من مصر وتونس إشاعة ما بأن السودان بمنجاة من تداعيات الربيع العربي بحكم القاسم الإسلامي المشترك. ولهذا كم كان سيكون أخلاقيا لو اعتذر الغنوشي عن حضور هذا المؤتمر، لاسيما وأنه أدان مؤخرا ما وصلت إليه تجربة الحركة الإسلامية في السودان.
بيد أن المفارقة الفاضحة لهذا المؤتمر كانت في البيان الذي اصدره الدكتور حسن الترابي والذي نفى فيه أن يكون هذا المؤتمر تمثيلا للحركة الإسلامية السودانية بعد أن انحرفت عن أهدافها وقيمها.
أما الدكتور الطيب زين العابدين المنشق عن نظام المؤتمر الوطني والذي كان رئيسا سابقا لمجلس شورى الحركة الإسلامية فقد كتب مقالا كشف فيه المأزق الأخلاقي الذي انحدرت إليه تلك الحركة خلال تجربتها في السلطة، بما لامزيد عليه. ولهذا نورد مقال د. الطيب زين العابدين على هذا الرابط لأنه أحد الأصوات التي مارست نقدا ذاتيا عميقا لتجربة الحركة؛ من باب (وشهد شاهد من أهلها)
[email protected]