لسنا بحاجة إلى القول أن التجربة السودانية في تغيير الأنظمة عبر انتفاضات شعبية كما حدث في أكتوبر العام 1964، حين أسقط الشعب السوداني نظام الفريق إبراهيم عبود بانتفاضة شعبية. ثم في أبريل العام 1985 حين أسقط نظام النميري بانتفاضة شعبية أخرى؛ هي تجربة فريدة ــ حتى وإ،ن لم يذكرها الكتاب العرب كأولى الانتفاضات التي أسقطت أنظمة عسكرية في المنطقة ــ لسنا بحاجة أيضا إلى القول : رغم أن الانتفاضتين أسقطتا نظامين عسكريين، إلا أن الواقع دل على أن الانتفاضتين كانتا أشبه بحالتين تم فيهما التغيير كما لو أنه ليس ضرورة. فبعد كل من انتفاضتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985 عاد العسكر مرة أخرى، مما دل على أن الحال في السودان كان مختلفا تقريبا عن الأسباب التي أدت إلى ثورات الربيع العربي. ففضلا عن اختلاف الزمن والأحوال، قامت ثورات الربيع العربي لا سيما في كل من مصر، وسوريا، واليمن، وليبيا، كردود فعل على الحدود القصوى من القمع، كما في ليبيا وسوريا، أو الحدود القصوى من انسداد آفاق العيش الكريم ووصول الفساد إلى حد لا يمكن التعايش معه، كما في مصر واليمن. منذ أسبوع يمر السودان بموجة من المظاهرات بدأها طلاب جامعة الخرطوم ثم لحق بهم بعض فئات الشعب دون أن تصل هذه المظاهرات حتى الآن إلى كتل بشرية كبرى، رغم أن اندلاعها، على خلفية رفع الدعم على أسعار المحروقات، بدا هو الأكثر وضوحا؛ الأمر الذي دل دلالة واضحة على أن مأزق الحكومة السودانية بعد انفصال جنوب السودان وذهاب أغلب عائدات البترول إلى دولة الجنوب ستنجم عنه مثل هذه الأزمات المتفاقمة، كما أشرنا إلى ذلك في أكثر من مقال.
المشهد السياسي في السودان في ضوء هذه المظاهرات سيظل مفتوحا على مختلف التحولات بحسب معطيات كثيرة في الواقع.
فمن ناحية السودان اليوم منقسم إلى دولتين. ومن ناحية ثانية هناك حركات مناطقية وإثنية نشطت سياسيا عبر العنف لتطالب بحقوقها السياسية من خلال سقفها الخاص بمنطقتها؛ مثل حركات دارفور، والنيل الأزرق، وكردفان، وشرق السودان. وكان نشوء هذه الحركات ــ بالإضافة إلى التهميش والظلم الذي لحق مناطقها على مدى الحكومات الوطنية المتعاقبة منذ الاستقلال ــ قد قام ردا على خلفية تصفية نظام الخرطوم للحياة السياسية والحزبية وتدميرها تدميرا شبه كامل، بطريقة غيرت تماما قواعد اللعبة السياسية التي كانت الأحزاب هي ميدانها الوحيد قبل انقلاب النظام في العام 1989م. أي أن ما حدث هو : تحويل العمل السياسي العام من المؤسسات الحزبية إلى حركات الهامش ذات الطبيعة المطلبية والفئوية.
وقامت على خلفية هذه الحركات نزعات جهوية ومناطقية وقبلية انعكست على المجتمع، وساعد النظام على التحريض على تلك النزعات ليضمن من خلال مؤسسات الإدارة الأهلية ولاء أبناء المناطق والقبائل في معظم السودان عبر ولاء النظار والعمد والشيوخ. ففشل في ذلك أيضا ولكنه أحيا شياطين الإدارة الأهلية النائمة فلعبت دورا كبيرا في تجديد الصراعات القبلية وتحويلها من الريف ــ كما كانت سابقا ــ إلى المدن.
من ناحية ثانية كان لانحسار ظل الدولة وعجزها، لاحقا، عن دعم المجتمع من خلال التوظيف في ديوانها العام بسبب تقديمها لأهل الولاء من الحزب الحاكم على أهل الكفاءة من بقية الشعب، وكذلك بسبب الحروب الكثيرة وإفقار ميزانية الحكومة في مشاريع خاصة، دورا كبيرا في ارتداد الكثير من أبناء الشعب السوداني إلى وحداتهم ومكوناتهم الأولية كالقبيلة والطائفة، يضاف إلى ذلك هجرة الكوادر السياسية والحزبية والتكنوقراط إلى المنافي بأعداد كبيرة، معطوفا على ذلك كله أن المشروع الحضاري لنظام الإنقاذ مسخ صورة الهوية الوطنية في تصورات الأجيال الشبابية الجديدة؛ لأن فكرة المشروع الحضاري كانت تقوم على : ضرورة إعادة صياغة الإنسان السوداني من جديد بناء على زعم آيدلوجي مفاده أن المجتمع السوداني، قبل انقلاب نظام البشير، كان مجتمعا بحاجة إلى صياغة جديدة. ولأن طبيعة المشروع الحضاري طبيعة آيدلوجية في تأويلها للدين فقد عجز النظام طوال 23 عاما عن إعادة تلك الصياغة المجتمع، وأصبح اليوم مشروعا لسلطة عارية، همها الأول استقطاب الانتهازيين مما أدى إلى تشويش كبير طال تصورات الكثيرين حيال الكثير من قضايا الواقع السوداني وتعقيداته التي انتهت بانقسام السودان إلى دولتين.
واليوم تأتي هذه المظاهرات بعد أن انقسمت الأحزاب الوطنية إلى أقسام عديدة، بعضها له شراكة كاريكتورية مع الحزب الحاكم. وبعضها أصبح معارضا بطريقة هامشية عاجزة عن استقطاب طاقة الشعب وإحداث الانتفاضة من خلاله.
في ضوء هذه المعطيات والاهتزازات البنيوية التي تعرض لها الشعب السوداني بفعل الكثير من المؤثرات يبدو الأفق غامضا؛ رغم الرغبة الصادقة لجماهير الشعب وفئآته في تغيير النظام.
ونظرا لهذه الطبيعة الانقسامية التي طالت الشعب السوداني لناحية مكوناته المختلفة التي تم دمجها، من قبل، بطريقة فوقية لم تراعي مفهوم المواطنة بمعناه الحقوقي والثقافي لمختلف مكونات الشعب السوداني، فقد انفجرت التناقضات ولكن ليس نحو بؤرة معارضة شعبية واحدة. فالسودان يدخل اليوم مرحلة المظاهرات على خلفية حروب أهلية اندلعت في مختلف أطرافه، وعلى هزال واضح للمعارضة السياسية من ناحية، وعلى اختلاف أدواتها في الصراع ضد النظام، سلما وعنفا، من ناحية أخرى.
المفارقة هنا أن هذه المظاهرات تأتي بعد أكثر من سنة على بداية الربيع العربي و على انفصال الجنوب الذي كان حدثا مناسبا ومهما جدا ا لخروج الشعب بمظاهرات من أجل إسقاط النظام، لاسيما في ضوء خبرته الفريدة ــ دون كل الشعوب العربية ــ على أسقاط نظامين عسكريين عبر انتفاضتين شعبيتين في زمن مبكر جدا. وهذا سيفسر لنا، ولو بصورة نسبية، الأفق المفتوح الذي يمكن أن تسفر عنه هذه المظاهرات التي تجري في السودان.
كان يمكن للسودان أن يفتتح الربيع العربي بالتزامن مع تونس لو كانت هناك معارضة قوية قادرة على توجيه الشعب من خلال وعيها أو قراءتها لمآل الأوضاع الكارثية بعد الانفصال. فقد كان انفصال السودان هو الحدث الأبرز الذي دل على بداية التحولات في المنطقة العربية ـــ بحسب الأستاذ حازم صاغية ـــ لكنه في الوقت نفسه بدا مؤشرا على التغييرات التي طرأت على بنية الشعب السوداني سواء لتفكيك قواعد العمل السياسي الذي أحاله نظام البشير إلى صراع بين المركز والهوامش، أو نتيجة للتشويش الذي ضرب تصورات كثير من أجيال الشباب حيال العمل السياسي والهوية الوطنية.
مأزق النظام هو في محاولاته المتكررة لكسب الوقت أمام كل العقبات الخطيرة التي تواجهه؛ فهو من ناحية غير قابل للإصلاح، ومن ناحية أخرى غير قابل للتوافق مع أحزاب المعارضة إلا عبر تفكيك نفسه خروجا من مأزق ملاحقة المحكمة الجنائية لرأس النظام، وكذلك من التردي المريع الذي أوصل إليه الأوضاع،سياسيا واقتصاديا.
وإذا ازدادت كثافة المظاهرات وقوي عودها واستطاعت أن تستقطب كافة الشعب فقد يقدم النظام بعض التنازلات الحقيقية، لكن حينها يكون الوقت قد فات؛ مثل كل استجابات الأنظمة العربية المتخلفة عن مطالب شعوبها.
الأيام القادمة ستتكشف عن الكثير من المسارات التي يمكن أن تفضي إليها مثل هذه المظاهرات. وبالطبع ليس لدى النظام سوى المواجهة، وهي مواجهة ستؤدي في النهاية إلى انهياره على خلفية مأزقه الاقتصادي الخطير.
وكنا قد ختمنا في مقال سابق قبل 4 أشهر بهذه العبارة: (بطبيعة الحال سيكون هناك حراك، ولكن لا أحد يضمن ماسيؤول إليه. وحين ينجم هذا الحراك فسيكون نتيجة للأوضاع الاقتصادية المتفاقمة).
لا أحد يمكن أن يتنبأ بتوقيت محدد للثورة، لكنها حين تقع ستؤدي إلى أفق أقل ما يقال عنه أنه أفق مفتوح على مختلف التحولات في ضوء معطيات الواقع السوداني.
[email protected]