الحال التي وصل إليها المآل السياسي المباشر للثورة المصرية كنتيجة للانتخابات الرئاسية التي جرت قبل أسبوعين، والتي انتهت بالمشهد السياسي المصري إلى مسار إجباري نحو مشروع إعادة انتاج نظام مبارك من خلال المرشح الفريق أحمد شفيق، أو إلى مشروع الإخوان المسلمين الداعي إلى دولة مدنية ملتبسة؛ هي في واقع الأمر حال تدعو إلى الكثير من الأسئلة حيال مجريات الثورة المصرية وطبيعتها في الواقع بعيدا عن التأويلات العامة.
فما انتهى إليه المشهد السياسي الساخن هذه الأيام بين مرشح الإخوان، والمرشح أحمد شفيق، دل تماما على وجاهة الرأي الذي همس به بعض المفكرين من أن ما جرى في مصر يوم 25 يناير كان في الحقيقة نصف ثورة ونصف انقلاب؛ فهو نصف ثورة لأنه لم يؤدي إلى تصفية نظام مبارك بالكامل، ونصف انقلاب لأن استلام السلطة بعد مبارك من قبل الجيش المصري كان حلا واضحا تم بحكم الأمر الواقع ولم يتم تدبيره بليل.
والحال أن القناعة التي ذهب إليها البعض من أن ما حدث هو ثورة كاملة لا سيما في تصريحات كثير من الناشطين السياسيين كانت ضربا من المزايدة على الواقع والنتيجة التي آل إليها المشهد السياسي اليوم في مصر وسط استغراب الكثير من القوى الثورية هي الشاهد الواضح على أن ما حدث هو نصف ثورة ونصف انقلاب أو بمعنى آخر لقد تمت إزاحة الديكتاتور فيما بقيت الدكتاتورية كبنية للنظام في الكثير من مفاصله.
لقد بدا واضحا بعد مرور أكثر من عام ونصف على انتفاضة المصريين أن عملية البناء الديمقراطي هي أهم وأشق بكثير من مهمة إسقاط الديكتاتور.والواقع المصري اليوم لن يجد سبيلا للخروج من المأزق السياسي الذي نشأ من الخلط بين المهمتين إلا بعد فرز حقيقي بينهما. وبالتالي فإن عملية الانتقال الديمقراطي هنا أشبه بصيرورة معقدة تحتاج إلى قراءات إستراتيجية من قبل القوى السياسية، بحيث تبدو مهمة الانتقال الديمقراطي بمثابة مؤشر واضح للنضج السياسي في برامج القوى الحزبية المفضية إلى التعاطي مع تلك المهمة كقضية وطنية ومشترك سيادي بينها للوصول بالوطن إلى بر الأمان . إلا أن أداء القوى السياسية قبيل الانتخابات الرئاسية انطوى على رؤية قاصرة حيال الاستحقاق الوطني بضرورة الانتقال الديمقراطي.
للأسف كان الجميع يعرف من سياسات المجلس العسكري أن ثمة إرادة خفية لإعادة إنتاج نظام مبارك عبر الالتفاف على الكثير من المواد الدستورية والقانونية. لكن طريقة تعاطي القوى السياسية من أجل تصفية تلك الإرادة الخبيثة وإفشالها دل على عدم تقدير حقيقي لخطورة الوضع دفع ثمنه المواطن المصري الذي بدا اليوم محبطا بين خياري شفيق ومرسي.
فإذا أخذنا رؤية الإخوان في مقاربتهم حيال واقع ما بعد 25 يناير سيبدو لنا واضحا ذلك التناقض الذي اكتنف رؤيتهم ومن ثم انعكس على مواقفهم السياسية. فعندما قرر الإخوان في البداية عدم المشاركة بمرشح في الانتخابات الرئاسية كان ذلك سببا لخروج أبو الفتوح عنهم لأنه قرر المشاركة في الانتخابات الرئاسية القادمة، ولهذا تم فصله من الإخوان. و المفارقة الكاشفة عن تناقضات الإخوان تمثلت في العدول عن قرارهم الأول ـــ وهذا من حقهم بالطبع ــ وإعلانهم المشاركة بمرشح رئاسي في الانتخابات؛ لكن ما دل على اضطرابهم حيال مقاربتهم للواقع السياسي كان يكمن في ترشيحهم للمهندس خيرت الشاطر ثم محمد مرسي، فيما النظر الاستراتيجي العميق كان يقتضي من الإخوان دعم عبد المنعم أبو الفتوح بدلا من خيرت الشاطر أو مرسي، وتجاوز كل الخلافات التنظيمية والبينية التي تسببت في فصل أبي الفتوح، من أجل تغليب رؤيتهم الوطنية وصفهم الحزبي. وعلى ضوء هذه الحقيقة سيكون من الصعب الوثوق بقدرتهم على التعالي على رؤاهم الانفرادية، وتصديق خيارات التوافق التي يطرحها مرشح الإخوان مع القوى السياسية الأخرى في حال فوزه في الجولة الثانية من الانتخابات، لأن إثبات قدرة الإخوان على تجاوز رؤاهم المحدودة من أجل التوافق الوطني انكشفت هشاشتها في موقفهم من أبي الفتوح. ويزيد الأمر وضوحا خياراتهم الضيقة في قائمة الجمعية الوطنية لكتابة الدستور وعدم قدرتهم على رؤية الواقع الموضوعي الذي يقتضي في هذه الحال التفريق بين أغلبية برلمانية لاختيار الدستور، وبين كتابة الدستور التي هي مهمة قومية وتحتاج إلى توافق كل قوى الشعب، بعيدا عن أي تأثير لكتلة الأغلبية الطارئة في البرلمان.
أما بالنسبة لقوى الثورة الأخرى ومرشحيها (صباحي ــ أبو الفتوح ــ عمرو موسى) فقد عجزت أيضا عن رؤية النتائج التي يمكن أن يحيل إليها الاستقطاب الحاد بين الاخوان وبقايا نظام مبارك الطامعة في العودة. فقد كان بإمكان مرشحي القوى الثورية من غير الإخوان، تأسيس كتلة وطنية واحدة من المرشحين الثلاثة بالتوافق فيما بينها لقطع الطريق على الوصول إلى هذا المسار الإجباري الذي وصل إليه المشهد السياسي اليوم بين شفيق ومرسي.
ربما يتساءل البعض : كيف سيتم التعاطي مع هذا الواقع الجديد بعد الإخفاقات التي انتكست بالقوى الثورية عن الموقف الموضوعي من هذا الواقع الجديد الذي يتنافس عليه كل من شفيق مرسي.
ينبغي أولا أن تكون رؤية القوى الثورية والشباب وجماهير الشعب الأخرى من غير أتباع الإخوان والسلطة، قائمة على النظر العميق لملآلات الواقع الذي سينتج عن هذين الخيارين.
ففي حال فوز شفيق سيكون ذلك هو السيناريو الأسوأ لأنه سينطوي على انسداد خطير في وجه الثورة، ليس فقط لناحية الفوز وعودة النظام القديم فحسب؛ بل والأخطر من ذلك؛ في المواجهة التي يمكن أن تقع بين الشعب ونظام شفيق في المستقبل، فالمواجهة هذه المرة لن تكون بين شعب منتفض ونظام ديكتاتوري، وإنما ستكون بين شعب منتفض ونظام دكتاتوري بقناع ديمقراطي سيواجه الشعب بالقوة بحجة أنه نظام وصل إلى السلطة بطريقة انتخابية ولن يتنازل عنها، فيما سيقوم باستعادة بعضا من أساليبه القمعية، أمام أنظار العالم الذي سيكون محتارا. وغالبا في أعقاب واقع كهذا سيتم استثمار الديمقراطية لأغراض خبيثة، فلن تكون هناك انتخابات مبكرة تفاديا للأزمة، بل سيستمر الإصرار لأربع سنوات قد تكون كافية لتصميم جولة أخرى عبر تزييف العملية الديمقراطية. وهذا هو السيناريو الأسوأ الذي يمكن أن يؤدي إليه وصول الفريق أحمد شفيق إلى كرسي الرئاسة.
أما السيناريو السيئ فهو سيكون في إصرار الإخوان المسلمين على تجريب السلطة بانفراد في ظل هذا الواقع السياسي الحرج للوضع المصري، لاسيما في ضوء تجاربهم السياسية عبر البرلمان خلال عام ونصف، وكذلك تجربتهم مع أبي الفتوح لكن الأخطر من ذلك هو في انفجار التناقضات التي ستنشأ من مفاعيل رؤيتهم الملتبسة للدولة واصطدامها بالكثير من بنيات الحياة المصرية المتصلة بالحداثة والعالم. فهم بطبيعة الحال يصدرون عن رؤية آيدلوجية غامضة لمفهوم الدولة، وهي رؤية سيصدر عنها تجريب مضطرب للسلطة في الواقع المصري، بحيث يفجر مشكلات متناسلة على طريقته الخاصة في الداخل والخارج.
إن الإشكالات التي سيواجهها الإخوان المسلمون من خلال تجربتهم في السلطة، حال فوزهم، ستكون أكثر تعقيدا من بضاعتهم الآيدلوجية؛ فهذا العالم المعقد وما فيه من موازين قوى، ونظم إدراك وعلاقات حديثة لن يجعل من تجربتهم القادمة في الحكم إلا اختبارا قاسيا لانفجار التناقضات بين الآيدلوجيا والواقع، ليس بالنسبة إلى العالم فحسب، وإنما أيضا بالنسبة إلى المجتمع الذي انتخبتهم. سينشأ الاعتراض أولا من المجتمع ذاته الذي انتخب الإخوان. فهذا المجتمع عند ذلك سيكشف عن تناقضات أشبه بالعصي التي تعطل دولاب سلطتهم في تفصيلات الحياة وشؤونها اليومية. فالتعاطف الذي يمكن أن ندرك معناه في لحظة الاقتراع، لا يمكن أن يستجيب لتحديات تغيير راديكالي غامض في حياة وصلت تعقيداتها إلى عمق بعيد وملتبس، بين أشكال الحداثة التي طبعت الحياة العامة للمجتمع المصري وما يرتبط بها من أفكار وأنماط عيش شكلتها تلك التحولات طوال القرن العشرين. ولقد صاحب ذلك تنميط لحياة تماهت مع الغرب في شكلها العام عبر العديد من التشريعات التي أسست الصورة الواقعية للمجتمع المصري؛ كل هذه التحديات الداخلية لحكم الإخوان ــ فضلاً عن الغموض الذي يلتبس تعبيرهم حين الحديث عن إجتراح صيغ سياسية سائلة، ومفصلة لنظام الحكم وتفصيلاته، من متن الأحكام الشرعية ــ مع ما يصاحبه من افتقار إلى التجربة، إضافة إلى التحديات الخارجية الناشئة من صورة العالم وهيئته العامة، ومن مصالح القوى العظمى وعلاقاتها؛ كل ذلك سيكون سببا في تعثر تجربة الإخوان في السنوات الأربع أو الخمس من دورة الحكم على الأقل.
لكن مع ذلك ربما كان مهما جدا هذا التجريب الديمقراطي للإخوان المسلمين فمن خلال هذا التجريب سيتكشف الحجم الحقيقي للإسلام السياسي بأسلم الطرق. وستتوالى النتائج الأخرى تباعاً فور خروج الإخوان من السلطة؛ من هذه النتائج : سقوط ذلك الزعم القائل بأن الإخوان المسلمين سيلعبون اللعبة الديمقراطية عبر شوط واحد، مرة وإلى الأبد. وبانهيار هذا الزعم الذي هو انعكاس لنمط تفكير آيدلوجي أنتجه القمع ستنهار الكثير من الأوهام والافتراضات التي شكلت ضغطاً مستمراً لذاكرة الحياة العربية الحديثة خوفا من أن ترتد تلك الحياة إلى كيان من الرعايا تحت حكم المشايخ والفقهاء!؟
كما أن نتائج هذه التجربة الديمقراطية لحكم الإخوان المسلمين ستكون الرد الواقعي والحقيقي على أوهام الإسلاموفوبيا في الغرب؛ إذ سيعرف الجميع أن أفضل الطرق لنزع فتيل المخاوف التي تضخها الأحزاب العلمانية عن الإخوان المسلمين تكمن في جولة واحدة من الحكم في مناخ ديمقراطي فحسب.
وبانتهاء التجربة سيدرك الإخوان قبل غيرهم الهوة الآيدلوجية التي تفصل بين تصوراتهم المبهمة لمفاهيم مثل : الحكم، والعالم، والمجتمع في الأزمنة الحديثة، وبين الإدراك الواعي للإسلام عبر إدراك تلك المفاهيم.
وبحسب الحراك الثوري الجديد في المنطقة لا يمكن للإخوان أن يتجاوزا قواعد اللعبة الديمقراطية، لأن أي إخلال بتلك القواعد سيؤدي إلى خروج الجماهير إلى الشوارع، وتحرك المجتمع الدولي. فالالتزام بتلك القواعد أمر لا مفر منه في ظل الواقع الثوري الجديد.
في كل الأحوال لا يعني ذلك بالضرورة خروج الإخوان من المسرح السياسي بقدر ما يعني النهاية الآيدلوجية لخطابهم عبر تجربة واقعية مقنعة للجميع بما فيهم الإخوان المسلمون أنفسهم.
عند ذلك ربما يستوعب الإخوان معنى العلاقة المعرفية الدقيقة بين العلمانية كمجاز ضروري للتواصل في العالم الحديث، وبين فهم الإسلام فهما معرفيا، بعيدا عن خطاباتهم الآيدلوجية السابقة لوصولهم إلى السلطة.
في كل الأحوال سيكون الاختبار الحقيقي لقوى الثورة هو في إدراكها لتعقيد عملية الانتقال الديمقراطي، والصبر على إكراهاتها من ناحية، والتعاطي مع تلك العملية كمشروع سيادي وطني توافقي من ناحية ثانية.
ذلك أن عملية الانتقال الديمقراطي ستظل صيرورة مستمرة عبر الكثير من التجارب والعقبات، سواء مع عودة النظام القديم بوصول الفريق أحمد شفيق إلى السلطة، أم بوصول الإخوان إليها.
[email protected]