التهديدات الأخيرة لكوريا الشمالية بشن حرب نووية على الولايات المتحدة، ربما كانت مناسبة عميقة لتأمل صناعة بعض الإرهاب بوصفه جنونا قابلا للعقلنة، على قياس مقولة (إن في بعض الشر خيار). فهذا التهديد رغم وجود الإمكانية النظرية والمادية لتنفيذه إلا أن حسابات العقلنة، في إدارة الجنون الإرهابي تظل ممكنة. ففي كوريا الشمالية على الأقل رغبة واضحة تبدو في خلفية التهديد، وهي المفاوضات المباشرة التي ترغب فيها كوريا الشمالية مع الولايات المتحدة، بدلا من النظر إليها كنظام شرير، وقاصر وأقل شأنا من أن تتحاور معه رأسا برأس. كما أن سبب المفاوضات المتصل بالمساعدات في التخفيف من حدة المجاعة التي تفتك بأطفال كوريا الشمالية يظل في خلفية المشهد لذلك الجنون المحتمل في الحرب النووية. وهكذا فإن إدارة الإرهاب الممكنة وفق مقاييس نظرية تنظر إلى هذا العالم من داخل شروطه المادية تظل أهم بكثير ــ رغم جنونها وعبثيتها ــ من ذلك الإرهاب الآخر والأخطر جنونا وفتكا ؛ والذي ينظر إلى العالم من خارج شروطه مثل إرهاب جماعة القاعدة. والمفارقة هنا أن حدود الخوف بين الإرهابيين: إرهاب القاعدة وإرهاب الأنظمة الشمولية المارقة، تظل أكثر خطورة وبما لا يقاس لجهة النوع الثاني أي إرهاب القاعدة، رغم وجودها الشبحي.

ذلك أن أخطر كابوس ينتظر العالم هو التدمير المحتمل في كل زمان ومكان عبر قنابل بشرية عابرة للحدود كالذي مارسته القاعدة في يوم كارثي مثل 11/9/2001م وفيما يظل الوجود المادي الظاهر من بنية النظام الإرهابي والمتمثل في أنظمة مثل سوريا، وكوريا الشمالية، مالكا لوسائل فتك أخطر من تلك التي بيد عناصر القاعدة فإن الاحتمال النظري لإنهاء جذور الإرهاب في تلك الأنظمة هو أهون بكثير من مواجهة ذلك النوع من الإرهاب الذي تمارسه القاعدة.
والحال أن وجود مثل تلك المواجهات القابلة للحسم عبر التفاوض أو حتى عبر الحرب القابلة للتحكم في نهاياتها، وهذه مستبعدة نظريا، بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة ؛ يصبح الخوف الهائل من إرهاب الأشباح ـ كإرهاب القاعدة ــ خوفا يأخذ معناه من طبيعة مصدره، أي خوفا متنقلا، وأبديا وعابرا لحدود الزمان والمكان، لاسيما في عالم أصبحت هشاشته المعولمة غير قابلة للاحتماء من ذلك الخطر الإرهابي مهما تحصنت. فالعدمية الإيمانية للقاعدة حين تنظر إلى العالم أو الآخر بوصفه موضوعا للموت تلغي كل إمكانية للتفاهم في إدارة الصراع، ويصبح القتل المتنقل هدفا مقصودا في ذاته ولذاته في كل زمان ومكان. وفي ضوء هذه المحددات يمكننا أن نعرف مدى خطورة قابليات الدمار المحتملة للجماعات الإرهابية بعد تفجير نيويورك في العام 2001م. في ذهنية الغرب وعقله الباطن. فلنتصور مثلا في ظل أوضاع الثورة السورية الراهنة: التردد القاتل الذي يشل دعم الغرب والولايات المتحدة للثوار خوفا من شبح القاعدة في سوريا، ومن ثم إطلاق يد بشار الأسد وعصابته لقتل السوريين إلى أن بلغ عدد الضحايا مائة الف قتيل خلال عامين. فلو لم يكن هناك وجود مفترض للقاعدة في ضوء تاريخها الإرهابي المخزي في العالم لكانت احتمالات إسقاط النظام الأسدي عبر دعم الجيش الحر أو حتى التدخل المدروس أكثر بكثير من هذا التردد الذي لا يزال بسببه يدفع الآلاف من السوريين حياتهم ثمنا له.إن ظل الإرهاب الذي تنتجه القاعدة وردود أفعاله وآثاره تتضاعف أكثر لمجرد التأمل في طبيعته العدمية وغير الأخلاقية. وربما كانت المفارقة الأخطر هي في عدم القدرة على الحسم النهائي في الصراع المفتوح بين القاعدة وخصومها، ليس فقط لأن خصومها المحتملين هم أنواع مختلفة من الأعداء والكفار ؛ بل كذلك من المسلمين أيضا ؛ فالموت المتنقل الذي ضرب نيويورك، ولندن، ضرب أيضا الرياض، والدار البيضاء والقاهرة. وهكذا يمكننا أن نرى ذلك الظل الثقيل والقاتل لإرهاب القاعدة فقط لمجرد كونه وجودا محتملا، وشبحا في الوقت عينه ؛ لكنه مع ذلك هو الذي يخيم على ذهنية الغرب ويقمع ضميره الأخلاقي ــ ضمن أسباب أخرى بالطبع ــ أمام استحقاق نصرة الثورة السورية في مسارها نحو الحرية وتصفية الاستبداد الأسدي.
ولأنه بالإمكان تصفية إرهاب الأنظمة، ولو بخسائر فادحة، نتيجة للوجود المادي والأسباب التي لا تخلو من معايرة موازين القوى وإدراك تعقيدات العالم الحديث إلا أن الإرهاب ذا الطبيعة الخارجية كالذي تتوعد به كوريا الشمال كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، والإرهاب ذا الطبيعة الداخلية كالذي ينفذه النظام الأسدي وطاغيته وعصبته المجرمة سيظل إرهابا معقلنا رغم جنونه. فيما جنون القاعدة الإرهابي الذي تفتك تداعياته غير المباشرة بالسوريين من خلال تواطوء نظام الولايات المتحدة والنظام الأسدي على شيطنة للقاعدة تملك مبرراتها الذاتية الواضحة لكل العالم (استخدمها القذافي من قبل) سيظل الأخطر فتكا. ذلك أن الفوضى والعدمية والقابلية للتدمير الذاتي عند القاعدة لا تشبه استعداد (الكاميكاز) الياباني ولا (نمور التأميل) لخيار الانتحار، ففي كل من المثالين السابقين ــ رغم الاستعداد للانتحار ــ ثمة حدود وطنية للموت وتوصيف محدد للعدو، أما ما تقوم به القاعدة هو فقط: تجديد عبثي للقتل المتنقل في كل زمان ومكان.