لوهلة، لو تجاوزنا طريقة وصول الإسلامويين إلى الحكم ــ افتراضا ــ وتأملنا في محاولة للمقايسة بين آيدلوجيتهم، وطبيعتها الانقسامية في المقاربة السياسية؛ لتبين لنا أن ما يحدث في مصر الآن هو في حقيقته استباق رائد ومبكر للحيلولة دون الوصول إلى مصير كارثي ومرعب؛ كالذي أصبح عليه السودان اليوم بفعل نتائج التطبيقات الإسلاموية المدمرة كما نراها الآن بكل وضوح في السودان، بعد أن تلاشت الأوهام : سودان منقسم إلى دولتين، حروب أهلية، نزعات قبلية ومناطقية طمست الهوية الوطنية وحالت دون الثورة على النظام الحاكم، انهيار نظم التعليم والاقتصاد والمجتمع، تفريغ هيكل الإدارة المدنية والعسكرية في الدولة من الكفاءات السودانية وتهجير تلك الكفاءات نتيجة لتطبيق نظام (الصالح العام) الذي يعتمد احلال أهل الولاء في الحزب الحاكم محل أهل الكفاءة من السودانيين في تلك المناصب؛ وبالتالي تدمير بنية المجتمع والدولة تدميرا كاملا. هذا هو الحال الذي آل إليه السودان اليوم بعد حوالي ربع قرن من حكم الإسلامويين!؟
وهكذا فإن ما كان سيحدث في مصر بفعل التطبيقات الآيدلوجية للإخوان المسلمين في مقاربتهم لإدارة الدولة والمجتمع ــ لو استمروا لأربع سنوات ــ سيكون شبيها بما حدث للسودان ــ وان بطريقة أقل تدميرا ــ ولأصبحت الانسدادات المؤدية إلى انحلال الحد الأدنى من صيغة العيش الممكنة في مصر ــ بفعل تلك السياسات الإخوانية ــ أكثر خطورة، و قربا من حدود الحرب الأهلية ــ لا سمح الله ــ في بلد كمصر لديه قابلية حضارية للحصانة ضد تلك الحرب.
ولهذا ربما كان من المهم جدا قراءة أحداث مصر الأخيرة في ضوء التجارب الكارثية لحكم الإسلامويين ــ لاسيما في السودان ــ حيث التجربة الأطول عمرا للأسف؛ ففي ضوء تلك القراءة يمكننا أن ندرك أهمية التحول الكبير الذي حدث بعد 30 يونيو في مصر لوقف مشروع انهيار الدولة على يد الإخوان المسلمين. وهنا سيتضح لنا جليا أهمية الفارق الكبير بين مصر والسودان لجهة اختلاف التجربة التاريخية والعمق الحضاري، والإحساس بأهمية الدولة في الوعي العام، ومن ثم اختلاف أسلوب المواجهة للمشروع الإسلاموي بين المجتمعين. ذلك أن تماسك الهوية المصرية واندماجها في حياة حضرية مستقرة يعمق احساس المصريين بالدولة، فضلا عن ادراك النخب المصرية بحقيقة هويتهم الحضارية والمجتمعية من خلال آلاف المفكرين والخبراء والاستراتيجيين القادرين على رؤية وخطورة ما تنطوي عليه التجربة الإخوانية في حكم مصر؛ فوعي تلك النخب هو الذي أدى إلى سرعة اكتشاف المصير الكارثي والأفق المظلم لهذه التجربة الإسلاموية بعد سنة واحدة فقط من بدايتها. ففي ظل وضع تم استغلال امكاناته الديمقراطية من أجل تطبيق آيدلوجا أوتوقراطية خطيرة على المجتمع المصري ـــ كما فعل الاخوان المسلمون خلال السنة الماضية من حكمهم لمصر ـــ لا يصبح النقاش مفيدا إذا ما انحصر ــ فقط ــ في مجرد فكرة الانقلاب على الشرعية الديمقراطية للرئيس المعزول محمد مرسي، بمعزل عن التأمل في الحيثيات الديمقراطية المفترضة، والمرتبطة في حقيقتها بجوهر ممارسات تلك الشرعية، أي فيما إذا كانت سياسات مرسي التي ثار عليها المجتمع المصري في 30 يونيو سياسات ديمقراطية أم سياسات أوتوقراطية ؟ هنا تتكشف لنا ثمرة الجدوى الحقيقية لتحول ما بعد 30 يونيو في مصر. فقد كان ذلك التحول هو : أحد تجليات العقل الحضاري والجمعي للشعب المصري ضد الأوتوقراطية الإسلاموية وسذاجتها في التجريب السياسي الذي سيؤدي بالضرورة إلى انقسامات عمودية وذات صبغة عقائدية صلبة في المجتمع قد تؤدي بدورها إلى حالة من حالات الحرب الأهلية .
ذلك أن آيدلوجيا الاسلام السياسي القائمة على : إدعاء حيازة وعي حركي خاص لفئة من المجتمع يمنحها طاقة خطيرة لمواجهة المجتمع المسلم العريض بخلفية عقائدية مؤدلجة من خلال اسقاط دلالات آيات القرآن الكريم على مخالفيها من أفراد ذلك المجتمع بوصفهم منافقين أو كافرين؛ هو الطريق الملكي للخراب والانقسام والدمار في أي مجتمع. لا يدرك الإخوان المسلمون هذه الخاصية الخطيرة في بنية وعيهم الايدلوجي، ولهذا فإن ردود أفعالهم تأتي بعيدة عن أي دلالة سياسية. فردود أفعالهم خاضعة لاستقطاب آيدلوجي حاد ليس لديه القدرة على موضعة الأحداث بوصفها أحداثا سياسية في سياق وطن وشعب واحد. ولهذا كان الاخوان في تجمعاتهم في ميدان رابعة العدوية، وميدان النهضة يستلهمون، ويستدعون أحداث غزوة بدر ليسقطونها على حالتهم كنتيجة حتمية لذلك الوعي الايدلوجي الخطير. قد تؤدي أحداث مصر بعد 30 يونيو الى اهتزازات في بنية المجتمع المصري نتيجة لردود فعل الاخوان المسلمين. لكنها مع ذلك ستكون أخف ضررا بما لا يقارن فيما لو حكم الاخوان المسلمين مصر بتلك الرؤى الآيدلوجية الخطيرة، التي تبين كم هي مدمرة وكارثية في النموذج السوداني للأسف. وغني عن القول أن هذه الآيدلوجيا الإسلاموية وما تفضي إليه من تطبيقات مدمرة في الواقع ليست هي العنوان المعرفي لحقيقة الإسلام، بل هي إحدى تجليات التخلف وتمثلاته التي ينتجها المسلمون في هذه الأزمنة.
التعليقات