لاشك أن الاستراتيجية التي كشف عنها مؤخراً رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون لمكافحة "التطرف العنيف وغير العنيف" هي خطوة بالغة الأهمية من أجل احتواء خطر الظاهرة الارهابية، والعمل وفق منظور استراتيجي يراعي تخليص المجتمعات من هذه الظاهرة وتحصين الأجيال الجديدة ضد الفكر المتطرف.
من الجوانب التي لفتت انتباهي في هذه الاستراتيجية أنها تعطي أولياء الأمور في بريطانيا الحق في مطالبة السلطات بالغاء جوازت سفر أبنائهم ممن تقل أعماهم عن 17 عاماً إن كاتوا يخافون عليهم من اعتناق الفكر المتطرف. كما تتضمن الاستراتيجية أيضا منع أي شخص تظهر عليه علامات التطرف من العمل وسط الأطفال والمراهقين والشباب والفئات التي يسهل التلاعب بأفكارها والتأثيرها فيها وتغيير قناعاتها الفكرية والدينية.& كما أعجتني في البيان الخاص بالاعلان عن هذه الاستراتيجية عبارة ذات دلالة يتحدث فيها كاميرون عن ضرورة وقف التطرف منذ البداية و"منع بذرة الحقد من أن تنمو في عقول الناس ونحرمها من الأوكسجين الذي تحتاج إليه لتنمو" وهي عبارة بسيطرة ومعبرة ولكنها بحاجة إلى عمل وجهود ضخمة كير ترى طريقها إلى النور وتترجم على أرض الواقع.
ربما يقول قائل أن هذه الأفكار موجود بالفعل في العديد من الدول العربية والاسلامية، ولكنها غير فعالة في مكافحة التطرف، وأرى أن طرحها وتطبيقها في دولة مثل بريطانيا يعد خطوة مهمة على درب مكافحة هذه الظاهرة الخطرة، لاسيما في ظل الصعوبات التي تواجهها الحكومة البريطانية في الموائمة بين منظومات القوانين الجديدة المضادة للارهاب والتطرف من ناحية وبين الحريات من ناحية ثانية، حيث يثور جدل واسع النطاق بشأن تأثير هذه القوانين والاجراءات على هوامش الحريات الفردية المتاحة وغير ذلك. من الأفكار التي أعجبتني أيضا في هذه الاستراتيجية، فكرة الشراكة المجتمعية القوية بين الأطراف المعنية هي أيضا فكرة مهمة للعمل في هذا المجال، الذي يتطلب تضافر الجهود كافة من اجل هزيمة الفكر المتطرف. والجديد في هذه الاستراتيجية أنها تستهدف فكرة جماعة "الاخوان المسلمين" وتشير إليه ضمناً باعتباره من بين العقائد الأيديولوجية التي يبنى عليها التطرف أو المنبع الفكري للتطرف، واستخدم البيان في ذلك مصطلح "التطرف غير العنيف"، مايضع الفكر الاخواني في مأزق حقيقي في أحد مراكزه الرئيسية في العالم، حيث يجيد الاخوان المسلمين التخفي والتقية وإظهار عكس مايبطنون وتوظيف القوانين الموجودة لمصلحتهم، ولكن النخب البريطانية باتت على ثقة من العلاقات الفكرية القوية بين الجماعة والتطرف، فالاخوان في بريطانيا يزعمون أنهم لا يصدرون المتطرفين إلى "داعش" ولكن الاستراتيجية الجديدة تضعهم في قفص الاتهام باعتبارهم أصحاب البيئة الفكرية الحاضنة لهذا الفكر، بل التي تهيىء له أسباب الوجود والانتشار في دولة مثل بريطانيا.
تقول مؤسسة كوليام البريطانية المتخصصة في دراسات مكافحة التطرف أن تنظيم داعش ينتج 38 مادة دعائية الكترونية عالية الجودة يومياً، وتنشر على شبكة الانترنت وتستهدف المتعاطفين معه حول العالم. والأهم من ذلك أن تقرير هذه المؤسسة يشير إلى أن العام ونصف الأخير قد شهد تغييرات كبيرة في نمط استخدام المتطرفين للانترنت من أجل إيصال أفكارهم المتطرفة إلى عقول الشباب مباشرة، وهذا يعني أن هذا التنظيم يمثل درجة عالية من الخطورة، في ضوء مقدرته التنظيمية، التي تتيح له تطوير أساليب التجنيد والاستقطاب الالكتروني وسط هذا الكم الكبير من الضربات العسكرية الجوية والأرضية التي يتلقاها من التحالف الدولي والتنظيمات المناوئة له في سورية والعراق.
بعض الخبراء سارعوا إلى التشكيك في جدوي التحرك البريطاني الجديد ضد الفكر المتطرف، ولكني اعتقد أن أي خطوة في اتجاه مكافحة الفكر المتطرف هي خطوة مهمة لا ينبغي التقليل من شأنها، لاسيما في ظل هذا الواقع المؤلم سواء لجهة تمدد تنظيم "داعش" إعلاميا ودعائياً أو انتشار أفكاره بين الشباب حتى في دول متقدمة مثل بريطانيا، التي تقول بعض استطلاعات الرأي المنشورة حديثاً أن واحداً من كل سبعة شباب بريطانيين يتعاطفون مع التنظيم، حيث أشارت صحيفة "التايمز" التي نشرت هذه النتائج أن "داعش" يحظي بتعاطف في أوساط الشباب البالغين ممن هم دون ألــ 35 عاماً، وأن واحداً من بني كل عشرة شباب في لندن (العاصمة) يتعاطف مع الفكر الداعشي! وهذه نتائج بالغة الخطورة ومرعبة بالفعل!!
إذا كان هذا هو الوضع في بريطانيا، فعلينا أن نتساءل فوراً وبكل جدية عن معدلات التعاطف مع الفكر الداعشي في كثير من دولنا العربية والاسلامية التي تشهد تفشياً مروعاً للفكر المتطرف، ناهيك عن معدلات التأييد المباشر لهذا الفكر الخبيث، حيث تبدو معدلات التعاطف في درجة لا تقل خطورة عن معدلات الاعتناق أو الايمان بهذا الفكر، كون التعاطف هي المرحلة الأولي للتبني وهو البيئة الحاضنة والبوابة الأساسية لما هو أخطر من ذلك، حيث يشكل المتعاطفون مع الفكر المتطرف البيئة الخصبة الحاضنة التي يمكن للتنظيم الحشد والتجنيد من بين صفوفها إذا ما توافرت ظروف معينة.
&