كلّ ما كشفته التصريحات الأخيرة الصادرة عن قياديي "حزب الله" وعن النائب المسيحي ميشال عون الذي يعمل لدى الحزب، ان ثمة رغبة ايرانية في تغيير النظام المعمول به في لبنان. فالإصرار على اجراء انتخابات نيابية، بموجب قانون جديد يعتمد النسبية، قبل انتخاب رئيس للجمهورية، اشارة واضحة الى الرغبة في فرض دستور جديد على البلد يحل مكان دستور الطائف الذي كرّس المناصفة بين المسيحييين والمسلمين.
مرّة اخرى يراهن "حزب الله" على ميشال عون من اجل الإنتقال الى المثالثة، بين المسيحيين والشيعة والسنّة. المثالثة بديلا من المناصفة. يريد الحزب فرضها وتكريسها بعد اكتشافه انه لا يستطيع التعايش مع رئيس طبيعي للجمهورية، رئيس مسيحي يحترم الدستور ويلعب درور الحكم، كما كانت عليه الحال مع الرئيس ميشال سليمان.
ما يدفع "حزب الله"، ومن خلفه ايران، الى اقامة نظام جديد في لبنان هو الرغبة بربط البلد نهائيا بالمشروع التوسّعي الإيراني القائم على فكرة سيطرة طهران على اربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. هذا المشروع بدأ بالتراجع، خصوصا بعدما تبيّن ان "عاصفة الحزم" بقيادة المملكة العربية السعودية مستمرّة. هناك بكل بساطة رفض عربي لعملية ايرانية تستهدف تطويق دول الخليج من كل الجهات، بما في ذلك الجهة اليمنية. ومعروف ان طول الحدود بين السعودية واليمن نحو الف وخمسمئة كيلومتر. كان يمكن ان تستغل ايران الحدود اليمنية، لو اسستب لها الأمر في البلد، ليس للتحرّش بالسعودية والإساءة الى امنها فحسب بل للإخلال بالأمن الخليجي كلّه وتهديده ايضا...
هناك اكثر من اي وقت اصرار ايراني على السيطرة على لبنان. في النهاية، صحيح ان العمليات العسكرية التي تستهدف الشعب السوري الثائر تتم بالتنسيق بين روسيا وايران، لكنّ الصحيح ايضا انّ روسيا باتت شريكا لإيران في سوريا. وهذا يعني في طبيعة الحال، انه سيكون هناك تقاسم للنفوذ في هذا البلد بين طهران وموسكو، خصوصا ان اقصى ما تستطيع ايران تحقيقه في سوريا هو قيام كيان علوي لديه ارتباط بدويلة "حزب الله" في لبنان، ولكن بحماية روسية. وهذا ما يفسّر الى حد كبير ذلك التركيز الإيراني القديم ـ الجديد على لبنان من منطلق ان "حزب الله" يظلّ الإستثمار الإيراني الأكثر نجاحا في انشاء ميليشيات مذهبية تُستخدم لضرب الأمن العربي. انّه الإستثمار الإيراني الأهم من المحيط الى الخليج في الأعوام الخمسة والثلاثين الماضية.
ما لا يمكن تجاهله ان "حزب الله" وضع يده على مؤسسات الدولة اللبنانية. صارت هذه الدولة اللبنانية دويلة في دولة "حزب الله" المصرّ على نقل لبنان الى مكان آخر بعيدا عن التجربة التي كانت له مع ميشال سليمان وذلك بغض النظر عن الرأي في مؤهلات الرئيس السابق الذي اخلى قصر بعبدا يوم انتهاء ولايته في الخامس والعشرين من ايار ـ مايو 2014 مؤكّدا بذلك الإحترام الدقيق لنصوص الدستور اللبناني.
كانت تجربة "حزب الله" مع ميشال سليمان اكثر من كافية كي يقتنع بان عليه تغيير النظام اللبناني، خصوصا انه اعتقد ان ميشال سليمان، انما اصبح رئيسا للجمهورية نتيجة انقلاب نفّذه الحزب الذي اجتاح بيروت والجبل الدرزي في السابع والثامن والتاسع من ايّار ـ مايو 2008. وقف الجيش على الحياد لدى اجتياح ميليشيا الحزب بيروت والجبل في غزوة استهدفت العاصمة اللبنانية واهلها ودروز الجبل.
فوجئ الحزب ومعه ايران بانّ رئيس الجمهورية الجديد، وقتذاك، اصرّ على ان يكون رئيسا لكل اللبنانيين وانّه مصر على حماية مصالح لبنان وليس مصالح ايران والنظام السوري. فوق ذلك، تبيّن انّه مصر على التعاطي تعاطي الندّ للندّ مع بشّار الأسد الذي اعتقد دائما انه قادر على ارتكاب كلّ انواع الجرائم في لبنان من دون حسيب او رقيب.
فوجئت ايران ايضا بالرئيس اللبناني يصرّ على "اعلان بعبدا" الذي يظلّ خشبة الخلاص للبنان واللبنانيين، فتراجع "حزب الله" عن موافقته على الإعلان الذي يكرّس الحياد اللبناني حيال ما يدور من صراعات على الصعيد الإقليمي.
ما تريده ايران حاليا واضح كلّ الوضوح. امّا رئيس في جيبها، كما كان اميل لحود، الذي لم يكن سوى موظّف لدى رئيس النظام السوري، وامّا المثالثة مع ما يعنيه ذلك من اتيان بنائب لرئيس الجمهورية، ذي صلاحيات تنفيذية واسعة محدّدة، ينتمي الى الطائفة الشيعية ويؤمّن الوجود الثابت لطهران بشكل شرعي.
لن يعود هذا الوجود الإيراني في لبنان مقتصرا عندئذ على سلاح لميليشيا مذهبية ذات دور يتجاوز الحدود اللبنانية فقط. يصبح هذا الوجود جزءا لا يتجزّأ من التركيبة السياسية للبنان مع ما يعنيه ذلك من تغيير لطبيعة البلد بدءا بتحوّله ارضا معادية لكلّ اهل الخليج، كما الوضع الآن، ولكلّ ما هو عربي في المنطقة.
في سبيل تحقيق هدفها اللبناني، تراهن ايران على "حزب الله" الذي يستخدم بدوره ميشال عون. انه رهان على لذيذين. لذيذ ان يأتي ميشال عون رئيسا للجمهورية. انّه قادر على الذهاب الى ابعد مما ذهب اليه اميل لحّود في عدائه لكلّ مشروع يصبّ في خدمة لبنان واللبنانيين... وصولا الى المشاركة بطريقة او باخرى في تغطية عملية اغتيال رفيق الحريري ورفاقه في شباط ـ فبراير 2005.
الم يذهب ميشال عون الى اسقاط حكومة الوحدة الوطنية برئاسة سعد الحريري في 2011، بمجرّد ان "حزب الله" طلب منه ذلك؟ اعطى ميشال عون وقتذاك دليلا آخر على انّه مجرد اداة طيعة لدى الحزب الذي هو بدوره اداة طيّعة لدى ايران، بصفة كونه لواء في "الحرس الثوري" ينفّذ كلّ المهمات المطلوبة منه داخل لبنان وخارجه.
امّا اللذيذ الآخر، فهو يتمثّل في في تمسّك ميشال عون بمقاطعة جلسات انتخاب رئيس للجمهورية واطلاقه كلّ انواع التهديدات كي يتكرّس الفراغ الرئاسي في البلد.
يبدو "حزب اللّه"، اقلّه الى الآن، رابحا من رهانه على اللذيذين اللذين يمثّلهما ميشال عون. ولكن، يبقى سؤال في غاية البساطة هل الوقت يعمل لمصلحة ايران في المنطقة. هل هناك ما يضمن انتصار ايران في سوريا حتّى يبقى لبنان مجرّد رهينة لديها؟