كتب إم. إل. روثستين، الطبيب الفرنسي اليهودي إلى الحكومة البريطانية في شهر سبتمبر من عام 1917 يقول: "على الإمبراطورية البريطانية أن تنظم وتسلح جيش من البحرين لغزو الإحساء لـتأسيس دولة يهودية على سواحل الخليج.." وقد رفضت الحكومة البريطانية ذلك الطلب في شهر أكتوبر، ولكن في شهر نوفمبر من نفس العام، ومن خلال وزير خارجيتها أرثر بلفور، قررت الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. ولنتعرف قليلا على شخصية أرثر بلفور، فلنقرأ ما كتب عنه رئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل: "لو أردت ألا يتم شيء، فخير رجل لذلك هو أرثر بلفور، فليس هناك أحد ينافسه في ذلك." ولنتفهم ارثر بلفور أكثر لنقراء ما قاله في عام 1917: "في فلسطين، لن نقترح حتى الرجوع لاستشارة المقيمين فيها، حيث لا نقبل بالأساس بمبادئ تقرير المصير لعرب فلسطين، فالقوى الأربعة العظمى ملتزمة بالصهيونية، وكون الصهيونية صح او خطأ، جيدة أو سيئة، فترجع جذورها لتقاليد قديمة طويلة، ونحن في الحاجة إليها حاضرا، وفي الأمل مستقبلا، وهي في عمق جذور الإستيراد، على تحيز ورغبة سبعمائة ألف عربي يستوطنون في تلك الأراضي القديمة." &
فقد قرر وزير الخارجية البريطاني، أرثر بلفور في عام 1917، أن يرفض طلب ممثل اليهود الفرنسيين الطبيب روثستين بالمساعدة البريطانية، لإرسال قوة عسكرية إلى منطقة الإحساء بالمملكة العربية لإنشاء وطن قومي لليهود، ولكنه وافق على أن يكون هذا الوطن اليهودي بفلسطين، فلماذا يا ترى؟ لقد أستوعب بلفور وحكومته خطورة بروز الإمبراطويرية الإسلامية من جديد، والتي بدأت جذورها في القرن الرابع الميلادي، وأستمرت حتى تنتقل بعدها للإمبراطورية العثمانية، والتي إستمرت حتى بدايات القرن العشرين. فقد حاول أرثر بلفور إستغلال مأساة اليهود في أوروبا، وخاصة بعد المحاكمة الصورية للضابط الفرنسي اليهودي ديفريس بالخيانة ضد بلده، لكي يزرع في وسط الوطن العربي جسم غريب، يزعز إستقراره، ليقي من إنهيار الإمبراطورية البريطانية، وليمنع بروز قوة عالمية إسلامية مهيمنة من جديد. وبالإضافة لذلك كانت الإمبراطورية البريطانية قلقلة من هجوم الطيارات العسكرية العثمانية على قناة السويس، فبزرع إسرائيل على الضفة الشرقية من القناة، ستقي قناة السويس من أي أعتداء عسكري يعطل الملاحة فيها. ويبدو بأن أرثر بلفور لم يقرأ حكمة رون فون، صديق القائد الألماني العظيم، بيسمارك، الذي وحد ألمانيا، ولكن في نفس الوقت زرع جذور دمارها من خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، حينما قال: "لا يأكل أحد من شجرة اللا أخلاقيات بدون حصانة." فقد زرع أرثر بلفور إسرائيل في قلب الوطن العربي، ولكن في نفس الوقت خلق عدم استقرار مستمر في الشرق الأوسط، بحروب مدمرة ومتكررة، مع إنتشار التطرف، ولينتهي الوضع بجماعات إرهابية طائفية تتصارع على الإمامة والخلافة. ويبدو بأن منطقة الشرق الأوسط قد وصلت لحضيض الأفكار المتطرفة، والصراعات الدموية الطائفية، والتي أدت لدمار العراق وسوريا ولبنان وليبيا، مع ملايين من القتلى والجرحى واللاجئيين. وقد خلقت هذه الأوضاع الجديدة في الشرق الأوسط، امتداد العنف والإرهاب بالعمليات الإنتحارية، لباقي دول العالم، من روسيا إلى باريس وحتى كاليفورنيا. فقد خلقت المجموعات الإنتحارية الرعب في جميع أنحاء العالم، والذي كلف الإقتصاد العالمي الترليونات من الدولارات، لذلك بدأت تستوعب دول الغرب، بأنه بدون سلام في الشرق الأوسط لن يكون هناك إستقرار أو سلام في الغرب، ولا في باقي دول العالم. حيث سيفلس هذا الإرهاب إقتصاديات دول الغرب، بعد أن وصلت نسب مديوناتها إلى معدلات عالية خطيرة. فقد إنقلب الوضع رأس على عقب خلال قرن من الزمن، من محاولة الإمبراطورية البريطانية ضمان بقائها بزعزعة الإستقرار في منطقة الشرق الأوسط، لتتغير الصورة اليوم بعد قرن كامل من الزمن، لتتأكد حكمة رون فون، بأنه لا أحد يأكل من شجرة اللا أخلاقيات بدون حصانه، ولنقرأ عزيزي القارئ ما كتبه مفكرو الغرب عن ذلك.&
لقد بدأ المفكرون الغربيون والقيادات الغربية بالاعتقاد، بأن مستقبل الغرب في القرن الحادي والعشرين مرتبط بسلام واستقرار الشرق الأوسط، بعد أن غيرت تكنولوجية الإتصالات والمواصلات العالم إلى سوق قرية عولمة صغيرة. وليسمح لي عزيزي القارئ مناقشة ذلك من خلال مقالات في شهر ديسمبر الجاري بمجلتين عالميتين في الشؤون الخارجية، وهما مجلة الفرون أفيرز، وهي من أشهر المجلات الأمريكية في الدبلوماسية، والمجلة الالكترونية، بروجيكت سنديكيت، وهى من أهم المجلات الالكترونية التي يكتب فيها قيادات العالم الفكرية والسياسية والإقتصادية والدبلوماسية. فقد كتب البروفيسور الأمريكي ستيفن وات، بمجلة الفورنز أفيرز، يقول: "تحتاج الولايات المتحدة أن تكون حليمة أمام قطع الرؤوس، والهجمات الإرهابية، وتدمير الآثار، كما أن ليس كل مأساة خارجية هي تهديد لمصالحها، وليس كل مشكلة عالمية تحتاج أن تحل بالهيمنة الأمريكية. فقد تخبطت الولايات المتحدة بشكل سيئ، حينما تعاملت مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر بغزو العراق، وسترحب داعش بتدخل آخر اليوم." &كما كتب البروفيسور دانيال بيمان، يقول: "يحتاج محاربة الإرهاب ليس فقط، الوقاية من أحداث الحادي عشر من سبتمبر أخرى، بل أيضا التعامل مع الحروب الأهلية، ووقف الصراعات قبل أن تبدأ، واحتواء الصراعات الموجودة، وبناء قدرات الدول. ويجب أن لا يكون هدف بناء قدرات الدولة تعزيز الديمقراطية، بل حل الخلافات، فقبل أن تبنى المؤسسات كاملة، فجهود الدفع للإنتخابات، قد تكون لها نتائج عكسية، لتؤدي لاستقطابات خطيرة بين الجماهير، أو تنتج حكومات ضعيفة تعرض دولها للإنهيار."&
كما كتب بروفيسور التنمية المستدامة، بجامعة كولومبيا بنيويورك، جفري ساكس، مقالا بعنوان، &قرن جديد للشرق الأوسط، يقول فيه: "تكرر الولايات المتحدة، والاتحاد الأوربي، والمؤسسات التي يقودها الغرب، كالبنك الدولي، السؤال: لماذا لا يستطيع الشرق الأوسط أن يحكم نفسه؟ ومع أنهم يكريرون هذا السؤال بمصداقية، ولكن بدون أي وعي ذاتي، فالحقيقة بأنه كان أحد أهم العوائق للحكم الرشيد في المنطقة، هو إفتقارها للحكم الذاتي، بعد أن شلت المؤسسات السياسية في منطقة الشرق الأوسط، بسبب التدخلات الأمريكية وألأوربية المتكررة منذ الحرب العالمية الإولى، بل وفي بعض المناطق الأخرى حتى قبل ذلك. &فيبدو لي بأن قرن من الزمن يكفي، فيجب أن يمثل عام 2016 بداية قرن جديد لسياسات شرق أوسطية محلية، تركز بشكل عاجل على التحديات التي تواجه التنمية المستدامة. فقد رسم مصير الشرق الأوسط خلال المائة سنة الماضية في شهر نوفمبر من عام 1914، عندما اختارت الإمبراطورية العثمانية الجانب الخاسر في الحرب العالمية الأولى، وكانت نتيجتها تفكيك الإمبراطورية، من قبل القوى المنتصرة، بريطانيا و فرنسا، مع الإستيلاء، بالسيطرة المهيمنة على بقاياها. وقد كانت بريطانيا بالفعل مسيطرة على مصر منذ عام 1882، لتضيف سيطرتها الفعالة على حكومات العراق والأردن وإسرائيل وفلسطين والسعودية، في حين كانت فرنسا مسيطرة على حكومات شمال أفريقا، لتضيف لهيمنتها لبنان وسوريا. وقد استغل الغرب عصبة الأمم، ليضمن لبريطانيا وفرنسا السيطرة على النفط، والموانئ، والخطوط البحرية، مع السياسات الخارجية لهذه الدول.. كما حاربت بريطانيا القومية العربية لهاشمية الحجاز. واستخدمت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية العباءة التدخلية، حيث دعمت المخابرات المركزية الأمريكية الإنقلاب العسكري في سوريا في عام 1949، ومع إنقلاب آخر ضد محمد مصدق في إيران عام 1953، للمحافظة على سيطرة الغرب على النفط. وقد إستمرت هذه الممارسات حتى اليوم، حيث تم التخلص من القذافي في عام 2011، وحسني مبارك في عام 2013، مع الحرب المستمرة ضد بشار الأسد في سوريا حتى اليوم. فقد استمرت الولايات المتحدة، وحلفائها، لسبعة عقود، التدخل المتكرر، للتخلص من الحكومات التي لم تكن تحت سيطرة إبهامها، كما سلح الغرب المنطقة بأكملها من خلال مبيعات أسلحة بمليارات الدولارات. وأنشأت الولايات المتحدة قواعد عسكرية في جميع أنحاء المنطقة، كما أن فشل كثير من عمليات المخابرات المركزية الأمريكية، أدت إلى وقوع الأسلحة الغربية في يد أعداء الغرب الإرهابيين."
وينهي البروفيسور جفري ساكس تعليقاته بالجواب التالي: "ولذلك حينما تسأل القيادات الغربية العرب لماذا لا يستطيعون حكم أنفسهم، فيجب أن يكونوا مستعدين للجواب. فلقرن من الزمن أدت تدخلاتكم الغربية لضعف المؤسسات الديمقراطية، برفضكم نتائج صناديق الإنتخابات في الجزائر وفلسطين ومصر وأمكان أخرى. بالإضافة لإشعال الحروب المتكررة، و الآن المزمنة، وتسليح الجهاديين الأكثر عنفا، وخلق حقول القتل التي تمتد اليوم من باكو إلى كابول." ويتساءل البروفيسور جفري ساكس: "فإذن، ما الذي ينبغي عمله لخلق شرق أوسط جديد؟" ويقترح البروفيسور خمسة مبادئ، أولا، يجب أن تتوقف الولايات المتحدة عن العمليات السرية لمخابراتها المركزية، التي تهدف للإنقلاب أو زعزعة إستقرار الحكومات في أي جزء من العالم. فقد أسست المخابرات المركزية الأمريكية في عام 1947 لهدفين، أحدهما شرعي وهو جمع المعلومات المخابراتية، والثاني مأساوي، بالقيام بعمليات سرية لقلب أنظمة الحكم، التي أعتبرتها الحكومة الأمريكية بأنها معادية للولايات المتحدة. ويجب على الرئيس الأميريكي أولا، أن ينهي العمليات السرية لقلب أنظمة الحكم أو زعزعتها، والتي استخدمت لزعزعة استقرار الشرق الأوسط، وثانيا أن تدفع بأهداف سياساتها الخارجية المشروعة للمنطقة، من خلال مجلس الأمن. فالطريقة الحالية في بناء "تحالف الراغبين" بقيادة الولايات المتحدة لم تفشل فقط، بل فشلت حتى الاهداف المشروعة، كوقف نمو داعش، التي شلت بسبب المنافسات الجغرافية السياسية. فستكسب الولايات المتحدة الكثير، بالدفع لمبادرات سياساتها الخارجية من خلال تصويت مجلس الأمن. فحينما رفض مجلس الأمن حرب العراق في عام 2003، كان من الحكمة أن تتجنب الولايات المتحدة غزو العراق. وحينما صوتت روسيا ضد التخلص من بشار الأسد في سوريا، كان من الحكمة أن تتجنب الولايات المتحدة عملياتها السرية ضد النظام السوري. والآن، يعمل جميع أعضاء مجلس الأمن من خلال خطة عالمية، وليست أمريكية، للقضاء على داعش. وثالثا، على الولايات المتحدة وأوروبا أن تقبلا بواقعية الديمقراطية في الشرق الأوسط، وذلك بأنها ستنتج الكثير من الإنتصارات للأسلام السياسي من خلال الصناديق الإنتخابية، ولكن في نفس الوقت الكثير من الحكومات الاسلامية المنتخبة ستفشل، كما هي الحال للحكومات الغربية الغير منتجة، ولكنها ستفشل من خلال الإنتخابات في المرات القادمة. بينما ستؤدي المحاولات المتكررة من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة لمنع حكومات الإسلام السياسي من إستلام السلطة، لإعاقة النضوج السياسي في المنطقة، وبدون نتائج لنجاحات تذكر، وبدون فوائد طويلة الأمد. ورابعا، يجب أن تتفهم حكومات المنطقة بأن أهم تحدي يواجه العالم الإسلامي اليوم هو كفاءة التعليم. فالمنطقة متخلفة في العلوم والرياضيات والإبداعات التكنولوجية، وريادة الأعمال التجارية، وتطوير المؤسسات الصناعية الصغيرة، وخلق الوظائف المنتجة، ومنع البطالة المقنعة. فبدون تعليم متطور، ليس هناك أي أمل للإزدهار الإقتصادي، والاستقرار السياسي، في أي مكان في العالم. وأخيرا، يجب على المنطقة ان تعالج الضعف الإستثنائي للتدهور البيئي، وإعتمادها المفرط على النفط والغاز، وخاصة في ضوء التحول العالمي للإعتماد على الطاقة المنخفضة في الكربون. فمنطقة الغالبية السكانية المسلمة، التي تمتد من غرب أفريقيا وحتى وسط آسيا، فهي أكثر مناطق العالم سكانا وجفافا، وبإمتداد ثمانية الآف كيلومتر، هناك نقص في المياه، مع زيادة التصحر، وارتفاع درجة الحرارة، وعدم ضمان الأمن الغذائي. وينهي البروفيسور مقاله بالقول: "وهذه جميعها تحديات حقيقة يواجهها الشرق الأوسط. فالشرخ السني الشيعي، ومستقبل الأسد السياسي، والخلافات العقائدية، أقل أهمية على الأمد الطويل للمنطقة، من كفاءة التعليم والمهارات الوظيفية، والتطورات التكنولوجية. فعلى مفكري العالم الاسلامي المتفتحين والجرئيين أن يساعدوا في إيقاظ مجتمعاتهم الغافلة لهذه الحقائق. كما على &الأشخاص ذوي النوايا الحسنة في العالم، أن يساعدوهم، لكي يحققوا ذلك من خلال تعاون سلمي، مع وقف الحروب والمؤامرات على غرار الإمبراطوريات البائسة. ولنا لقاء.&
&
الدكتور خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان