&
&
اعتدتُ ان ألازم بيتي فهو جنّتي الصغيرة التي ألوذ وأستكين بها بعيدا عن الصخب وهيستريا المفارقات والفوضى الغريبة الاطوار والمتعددة الطراز وحالات غياب السلطوية وإشاعة " الأناركيزم " ، ولو كان السيد باكونين &عميد الفوضوية معي لشابَ رأسه عجبا وكفر بفوضويته ؛ وكيف لي ان اخرج منها تلك جنّتي وبيتي وهذا الجحيم يحيط بي من اية جهة يممتُ وجهي اليها ،لذا صار الكتاب اقرب المقرّبين اليّ وكأني مصاب بداء حبّ الكتاب " الببلومانيا " او كما يسمى ايضا " الداء اللذيذ " وكلما قفزتْ في عقلي فكرة ما أتركه غير مودّع ليبوح قلمي مافي داخلي وأسطّره على الورق وحالما انتهي من الكتابة أعود اليه معتذرا عن مدة غيابي قصرتْ ام طالت ، ولايدفعني ايّ حافز للخروج الاّ للضرورات القصوى أو مثلما يقول أصدقاؤنا المصريون " الشديد القويّ "&
خرجت مرغما لاستلام مرتّبي التقاعدي وشراء ما يلزمني لخلوة بيتية قد تطول اسابيع عديدة فما أقبح الحاجة للمال حتى لو كانت من حقوقك كي تجعلك تغوص في تلك الأوحال والغرائب غير المستساغة ..... صدفة وأنا امدّ يدي الى راديو السيارة لتشغيله في غمرة ازدحام المركبات نهار يومٍ غائم معتم بسحاباتهِ السود من &تشرين الثاني ينبئ بأمطاره الغزيرة مثل شلالات كثيفة تسقط من السماء لكنها لم تفلح في إزالة وعث المهازل &والمباذل والسلوك غير السويّ الذي يصاحبنا اينما اتجهنا وحيثما أزفنا ،&
رأيت أبناء بلدي الفقراء المهمشين ممن يفترشون الرصيف لعرض بضاعتهم واستغلال حالات الزحام لترويج ما بأيديهم من سلع بائسة شبيهة بحالهم المائل ؛ فهذا يبيع الشاي على ركّاب السيارات المصدّعة رؤوسهم من الانتظار والملل قرب نقاط التفتيش وذلك الشيخ المسكين والمرأة الذليلة والطفل الغائب عن مدرسته يستجدي الناس عبر نافذة السيارة رغم شدة هطول المطر لعل أحداً يرحمه ويغدق عليه عملة بخسة القيمة وعربات المعوّقين تنسلّ بين السيارات لعل حظوة من الدراهم المعدودة تفلت من جيب أحدهم لتستقرّ في يدي هؤلاء المسحوقين من الكثرة الكاثرة من الأرامل والاطفال والفتية والشباب العاطل عن العمل والشيوخ المهملين دون رعاية&
كان صفير منبهات السيارات يعلو بامتعاض شديد وصولا الى نقطة التفتيش المرابطة امامي ، فتحت المذياع لأخفف من الملل عسى ان تنبعث حكاية ما او مقطوعة موسيقية &لتؤنسني من عبء ما انا فيه ، اذ لم ينفع معي شريط الاسبرين الذي أصحبه دائما في كلّ خروج من البيت من إزالة الدوار المتسرّب الى رأسي ، ومع اني أخذت حبتين منه تخفيفا للصداع الذي يلازمني ويشتدّ بي أكثر أثناء حصول الخناق المروري ؛ فإذا بأغنية لمطربنا العراقيّ سعدون جابر تلاعب أسماعي ومنها هذا الدارمي الجنوبيّ الجميل بصياغته الشعرية :
" ماأرجهْ بالصفصاف يطلعْ ثمرْ بيه ------- وآنه على چيد اعدايْ ازرعْ وباريه "&
وهو من صياغة الشاعر الشعبيّ البارع عريان السيد خلف ؛ قلت في نفسي متسائلا وأنا أشغل نفسي لعل الوقت يفوت خفيفا ؛ لماذا الاستهانة بهذه الشجرة المباركة التي جعلها الله عقارا ناجعاً ومنها ابتكر علماء الطب والصيادلة والكيمياويون علاج الاسبرين الذي استخدمته توّا &حتى صار أليفي ؛ ولماذا لم تُنصف تلك الشجرة المورقة على مدار السنة لتقدّم خدماتها الشافية وتمنح عافيتها لمن تفاقم الالمُ في جسده ولعبت به الحمّى وحرارة الجسد وجعلته موطئاً لأوجاعها وتبثّ فيه الوهن والصداع وارتخاء العضلات وضمورها&
وكم كان الطبيب الإغريقي النطاسيّ " ابيقراط " مصيبا حينما شعر مرّةً &بالوهن والصداع وزيادة سخونة الجسد فدلّه عقله الثاقب الى شجيرة صفصاف قريبة منه واخذ يمضغ من اوراقها حتى شعر بالعافية تعود مجددا الى جسمه ... وقبله كان المصريون الفراعنة يخرجون لحاء الصفصاف مع خصلة من اوراقه ويغمرون المزيج بالماء نقيعاً مطبّباً ويتركونه أمدا غير قصير حتى يكون جاهزا للشرب كعقار لمعالجة أمراض الحميّات والصداع وآلام الرئتين وتحسين جهاز التنفس لوفرة مادة " السالسين " فيه واستمرت الجهود حتى تم تحضير مادة الصفصافين النفيس الغالي الثمن من تلك الشجرة البلسم بعد عمليات مختبرية معقدة حتى جاء الصيدلاني البارع " فردريك هايدن " واخترع حامض الصفصافيك الزهيد وصار في متناول ايدي الناس ؛ فقرائهم وأثريائهم ثم &جاء الطبيب الالماني " فيليكس هوفمان " الذي عمل على انتاج حبّة تابلت طبية مستخرجة من تلك الاوراق لتقضي على الحمّى وتخفف الالم عند الانسان المصاب وتكافح التخثّر في الدم وتجعله يسيل في انحاء الجسد &منعا لحدوث الجلطات المميتة وأطلق عليها اسم &"الاسبرين " والتي أشاعته عالميا شركة " باير " &الطبية &الشهيرة ... لكن شاعرنا الغرّيد عريان السيد خلف كاتب كلمات الاغنية قد تناسى بلسمها الشافي المُعافي ويأبى ان يقرّ به معيبا عليها انها لا تثمر ولا يرجى منها طعام ؛ وهل انفع للمرء ثمرا نأكله ليقيم الاوَد ويسد الرمق لفترة وجيزة ام دواء ناجعا يشفينا ويعيد الينا نشاطنا ويبرز صحتنا لوقت دائم ؟؟!
حسنا من شاعرنا المبدع الكبير عريان ومطربنا المجدّد سعدون جابر انهم يرعون ويبارون هذه الشجرة الشافية عسى ان تخفف عنا صداع مانعاني منه من زحام مروري لايرحم ونقاط تفتيش خانقة خاصة في ايام ذروة الشتاء وغيثه الغزير الذي لم يستطع على كثافته وانهماره المفرط من ان يغسل مفاسدنا وينصع قلوبنا ويروي ظمأنا الى الامن والسلام وراحة البال بل زادنا غرقا وفاض بنا كيل الهموم حتى طفح في باحة بيوتنا وانسلّ فائضا في حجراتنا ومرافق بيوتنا كلها ولم يكن لنا من بدٍّ الاّ ان نرتقي على السطوح والغرف العليا لنأمن شروره وطغيانه&
أوووه اين ذهب بي خيالي الجانح ؟؟ أهكذا كانت الاغنية الشعبية فعلت فعلها بي وأدخلتني في متاهات الداء والدواء وعربتي تمشي مشي السلحفاة وها اني اقترب من نقطة التفتيش كي أفلت من خناقها وانطلق الى مبتغاي فقد أزف الكثير من الوقت وانا مازلت لم اتجاوز بوابة التفتيش التقليدي البدائي والتي يأبى مسؤولونا الأمنيون الاستعانة بالأجهزة والمبتكرات الحديثة السونارية لسبب لاأدريه بالضبط وأهجس واتمنى ان يكون هاجسي في غير محله فربما القصد منه تعطيل مصالح الناس وبعث التذمر في نفوسهم وزيادة بلواهم والاّ فما الداعي الى هذا الإجراء غير الموفق مادام الإرهاب يسرح ويمرح ويقتل ويسفك ويطيش مثلما تنتشر ايضا الجريمة المنظمة ورجال العصابات والخاطفون يتحرّكون بكل حرية بين ظهرانينا&
وصلت الى مقصدي متأخرا دون ان تتلمّس أناملي وتتحسس قرقعة دنانير مرتبي غير الوفير فقد اغلق شبّاكا السحب والإيداع في المصرف لأعود خالي الوفاض الى جنّتي الصغيرة وحمدت الله على سلامة الوصول رغم المنغّصات الجمّة التي أثقلت كاهلي والافكار التي سرحت بي بعيدا ؛ على ان أعيد نفس الكرّة والفرّة والدورة المرهقة غداً محاولا إقناع نفسي وتطييب خاطرها مرددا ماقاله السابقون " وان غدا لناظرهِ قريب " فلا الأباعد اقتربوا ولا ذوو القربى رحموا وللهِ في خلقهِ من ابناء وطن القهرين لا النهرين شؤون وشجون أعجز من ان تُحصى&
&
&