في إبان تكونها، منذ الربع الثاني من القرن العشرين، جذبت الأحزاب، الفتيان والشباب وبعض الكهول بجاذبية شعاراتها الرومانسية، التي دغدغت عواطفهم التي دُعِمَت تربوياً، تلك الأحزاب التي لم تكن تخلو في صميم بنيتها من نفحة فاشيّة، سواءً بتغذية مشاعر الفوقية والتفوق في نفوس أعضائها، أم في المبالغة في مركزية القيادة، وإطالة أمدها والسعي الحثيث إلى ترسيخ صنميتها، إذ لم تتوطد الرغبة، بل ربما ما كانت متوفرةً أصلاً، في اعتبارها إدارة، كما يفرض الواقع النظري والميداني، بل إنه حتى عندما اعتمد البعض تعبير اللجنة، ما كان ممكنا سوى وصمها بالمركزية، فهناك دوماً أعلى.

وعجيب أمرنا، فقد سبق أن ناهضت جمعياتنا العربية، منذ أواخر القرن التاسع عشر، المركزية العثمانية، ونادت باللامركزية. وبعد انهيار الإمبراطورية وتفككها، طفق الجميع ينادي بالوحدة، وأخذ كلٌ يسعى إلى وحدة ما!

وبدلاً من أن يؤدى، استقرار الأوضاع على ما وصلت إليه، مع اتضاح وازدياد ميل الأفراد إلى الاستقلال المادي والمعنوي وبالتالي الفكري، إلى محاولة العمل على بناء الدولة الحديثة - العلمانية والديمقراطية - ضمن حدودها القائمة، أدى - على العكس - إلى بقاء الارتباط الوثيق في الخضوع إلى سلطة الأب، أو الأخ الأكبر، في الأسرة والمدرسة والنادي والجمعية والحزب والشركة والمؤسسة والمديرية، والتماهي بأفكاره التي يطلقها ومن ثم التباهي بها ثم كتابتها جُملاً وعظية مبتسرة، ما أسرع أن تغدو حِكَماً سائرة تتردد، كأمثال الأسطورة التدمرية.&

هذا ما حصل، بعدما هُزِمنا في معارك فلسطين، مراراً، ونحن لم نعترف إطلاقاً بأية هزيمة. إذ أننا لا نُهزم وإنما هي مرة مؤامرة التقسيم، ومرة نكبة فقد خسرنا معركة، ومرة كانت نكسة... لذلك لا يخطر لنا على بال أمر المراجعة ومحاولة استقصاء أسباب هزيمتنا لتلافيها، وكان أن فضّلت هذه الأحزاب انتظار حلول النصر بالخطابة... وبعضها انتظر قدوم المنقذ - المستبد العادل- مع ادعاء معظمها التلبس ببعض ظلال التقدّمية.&

كان مغريا، آنذاك، انخراط الشاب في إحدى العُصَب مفتوناً بشعارها الخاص، اللفظي أو اللوني. ومن ثم يمتلئ بالحماسة للمطلقات التي بُشّر بها فلا يطيق لعصبته انتقاداً. من هنا عمّ استخدام فعل التعصّب*، وكذلك صفة التزّمت* التي يوصم بها أيضاً أعضاء بعض الجماعات المناقضة.&

على أن شعارات الأحزاب التي تكونت، بُعَيْد انفصال بلادنا عن الدولة العثمانية وإعلان المملكة السورية في 8 آذار1920 كانت متفاوتة الانبساط في جغرافية وطن مازال افتراضياً، وكلها تغري فمساحتها أكبر بكثير من مساحة الجمهورية السورية، ومشهدها على الخريطة يملأ الفراغ إزاء عين الناظر!

أما الأحزاب التي ارتضت جعل ميدان عملها الأرض التي يرتفع عليها العلم السوري، ويحكمها الدستور والقانون السوري، ويحمي أرضها وحدودها الجيش السوري، فقد أسميناها تقليدية، وعملنا على قرضها وانقراضها بالسرعة الممكنة. فلم يبق لنا من هذه الأحزاب سوى نداء: أيها المواطنون الذي كانت تخاطبنا به. وقد أضافت إليه بعض الأحزاب الحديثة، كلمة الإخوة، فهي كلمة مناشدة تروج في الملمات، في حين عمدت بعض العُصَب إلى تصنيف من تدعوهم إخوة، وليسوا كلّهم مواطنين في نظرها، إلى تقدميين ورجعيين، ويساريين ويمينيين. وألهتنا بالتالي عن تذكّر أننا مواطنون لنا الحق في التمايز عن بعضنا والاختلاف فيما بيننا، في الدولة المدعوة حديثة، عبر تعددية يطرح فيها كل، فرد أو حزب سوري، ما يراه مفيداً أو مساعداً على ازدهار الوطن والمواطنين، من خلال نشرات وصحف، بحق متساوٍ للجميع، من دون اعتراض بأن الوقت ليس مناسباً الآن، ومن ثم تلحقه لائحة الممنوعات الإدارية المعلنة والضمنية، ثم يأتي الاقتراع لينتقي المواطنون، وهم إخوة من غير تصنيف، ولتأخذ الأكثرية النسبية سبيلها في السعي إلى تحقيق النماء والازدهار وفق برنامج سبق اقتراحه.&

القول بالأكثرية النسبية يُلقي جانباً مسألة الأكثرية العددية، فالأكثرية العددية ليست ولن تكون يوماً على رأي أو قول واحد، وإلاّ لانتفى التطور وامتنع الابتكار، بل لابد، واقعياً، من أن تكون أي أكثرية عددية، في أي مكان، موجودة في كافة التشكيلات السياسية والاجتماعية، مثلها مثل مجمل فئات المتحد الاجتماعي، (في هذا المضمار يغدو معيباً القول بأقليات مجتمعية، إثنية – ميتية، فهي من جملة الإخوة بالضرورة) وأما الأقلية أي تلك التيارات السياسية أو الفكرية التي لم تحصل على حصة مناسبة من أصوات المقترعين/ الناخبين، فليس مفترضاً معرفة أصول أصحابها أو انتماءاتهم الذاتية بل معرفة أطروحاتهم الفكرية والسياسية وسلوكياتهم العامة (لا الشخصية).&

*الكلمتان غير موجودتين في المعاجم لأنهما حديثتان.