&

&

ظلّ الراحل أحمد الجلبي لغزا في حياته وفي موته. أختلف حوله الكثيرون حيّا وميّتا. تجاوز الفريقين من الأعداء والأصدقاء، مهمّ لإدراك بعض الحقائق ومعرفة بعض الأسرار التي كانت بحوزة رجل الأرقام المثير للجّدل. كما أنّ تجاوز الإنفعالات المتباينة حول الحدث، ضروري للتقييم المحايد.
في بلاد المقابر الجماعية غالبا ما تُدفن الأسرار الكبرى بموت أصحابها. الأحياء ينبغي أن يظلّوا جاهلين. فالمعرفة تقلّل التأويلات. أصحاب القرار يعشقون القيل والقال. تلك هي بضاعتهم الرائجة. وإحتكار السرّ في دوائر ضيّقة هو من مصادر القوّة والهيمنة والتحكّم كما يعتقدون.
كلّ أسرارنا لدى الأموات. يخشون من بوحها في حياتهم ويسمّون ذلك عندنا "سياسة". المسكوت عنه هو إكسير الحياة. ومن أسباب البقاء والوجود في اللعبة السياسية. الحيازة على المخفيات وحفظها في الذاكرة الشخصية دون توثيق هي من تقاليد المدرسة السياسية العراقية. ومن شرورها أيضا. أمّا الكتابة والنشر والإعلان والإشهار فهي مذمومة في بلاد علّمت البشرية معنى الكتابة والتدوين.
البلبلة والمناكفة هما من مزايا الثقافة الشفهية. لا حقائق ولا يقين من وحول كلّ شيء. لا زلّنا نشتم بعضنا حول 14 تمّوز 1958 إن كانت ثورة أم إنقلاب. ولا زلنا نقتل بعضنا حول صدام حسين إن كان بطلا قوميا أم ديكتاتور. كما لا زلنا نعادي بعضنا حول أحقية الخلافة الإسلامية بعد وفاة الرسول.
كان الراحل أحمد الجلبي مدركا لحقل الألغام الذي وطأته قدماه. يوحي بكشف الأسرار ثمّ يتردّد. لا يهمّ ان كانت تلك لعبته المفضلة أم كانت يقظة ضمير أو كانت إدراكا منه بالتوقيت المناسب لكشفها. ساعة القتلة لها توقيتها أيضا. مجسّاتهم في كلّ مجلس. سمومهم في الماء والهواء والكهرباء وفي عيون الأصدقاء والأعدقاء. في أيامه الأخيرة تحدّث في أكثر من مناسبة عن ملفّات الفساد. وأوحى بالكثير والخطير. أجراس الإنذار دقّت في عواصم الفساد وفي نفوس الفاسدين.
هكذا رحل الرجل دون أن يقول شيئا. شاهد آخر ينضمّ لصفوف الشهود المغدورين. كي تبقى الحقائق طيّ الكتمان. أصابع الإتهام لا تتّجه لأحد. التحقيق سيخضع للتسويف. فنحن لا زلنا في بلاد المقابر الجماعية.
الصمت هو قانون المافيات. لكنّ للصمت الطويل أصواته أيضا. وأحيانا يضخّمها دون هلوسة. عصابات الكفّ الأسود أو الكفّ الأخضر يمقتون الخروج عن النسق المرسوم لهم. رجل الحسابات والأرقام الدقيقة كان ينوي الدخول في المحظور. رهانه لم يكن دقيقا هذه المرّة.
لكنّ رهان القتلة خاسر أيضا. الموت ليس خاتمة الأشياء دوما. ثمّة أشياء لا تموت بل تحيا بطرق أخرى. الحياة نفسها وكيف تعيشها هي أكثر غموضا من الموت. الجميع خاسرون في هذه اللعبة الجهنمية التي دخلناها وأُدخلنا فيها برضانا في نهاية المطاف. فمن قتل يقتل والأيام تدور بين القاتل والمقتول. سيرة لا يراد لها أن تنتهي طالما أنّ الرابحين من معارك قتلانا المحتملين وقاتليهم المجهولين ـ المعروفين، هم عواصم القرار وآلهة المصارف وشركات السلاح وشركائهم في المنطقة الخضراء.
باريس
&