لا أحد يستطيع التشكيك في مواقف المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة حيال سيادة الدول العربية وموقفهما الثابت حيال الأخطار الاستراتيجية الناجمة عن اختطاف التنظيمات الارهابية المتطرفة للسلطة في بعض الدول العربية؛ فالشواهد واضحة وتجارب الأمس القريب تؤكد جدية قيادتي البلدين في التصدي للنفوذ المتنامي لتنظيمات الارهاب وعملاء الخارج في أي من الدول العربية، ومن ثم فإن موقف القيادة السعودية، الذي أيدته دولة الامارات العربية المتحدة، بشأن وقف المساعدات المقدمة إلى الجيش اللبناني، لا يستهدف لبنان الدولة والشعب، بل يستهدف تخليص لبنان من براثن "حزب الله" الذي أكد بكل وضوح أنه لا يعمل لمصلحة الشعب اللبناني بل يعمل على خدمة مصالح إيران، ويحقق أجندتها المذهبية الطائفية البشعة من دون أدنى اعتبار لمصالح الشعب اللبناني، وبقية الشعوب العربية التي يزعم زعماء الحزب أنهم يعملون من أجلها!!
ما صدر عن القيادة السعودية يوم الجمعة الماضي بشأن وقف المساعدات المقدمة إلى الجيش وقوة الأمن اللبناني، لم يكن وليد اللحظة ولا تعبير عن انفعال وقتي، فقد فاض الكيل بالسلطات السعودية جراء سلوكيات الحكومة اللبنانية ومواقفها المناهضة للمملكة في أزمتها مع إيران، وبالتالي ليس من المنطقي أن تواصل المملكة تقديم مساعدات للجيش اللبناني في ظل سيطرة "وكلاء إيران" في حزب الله على القرار اللبناني.
&لا يستطيع أحد أن يزايد على مواقف المملكة العربية السعودية ومساندتها التاريخية للدولة اللبنانية، فالرياض ظلت لسنوات وعقود تقدم دعماً سخياً للبنان في كل الظروف الصعبة الي مر بها، ولم يكن تقديم هذه المساعدات سوى أحد مظاهر الدعم التي تستهدف الحفاظ على أمن الدولة اللبنانية واستقرارها الداخلي.
لقد استطاع "حزب الله" في الفترة الأخيرة اختطاف الإرادة اللبنانية ومصادرتها، والتحدث باسم طهران في المحافل العربية الاقليمية، حيث كان لافتاً موقف لبنان تجاه الاعتداءات الايرانية على مقار البعثات الدبلوماسية السعودية في إيران، حيث بلغ الأمر بالوفد اللبناني إلى التحفظ على إدانة الجامعة العربية لهذه الاعتداءات، فلم يكن أمام السلطات السعودية سوى القيام بمراجعة شاملة للعلاقات مع لبنان، بما يتناسب مع مستجدات الموقف ويحقق مصالح المملكة، إذ لا يعقل أن تنفق الرياض نحو 4 مليارات دولار على مؤسسات أمنية لبنانية في ظل تخلي لبنان عن مساندة السعودية في هذه الظروف.
في يناير الماضي، قال وزير الخارجية والمغتربين اللبناني جبران باسيل خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة، أن بلاده امتنعت عن التصويت على بيان الجامعة العربية الداعم للسعودية في مواجهة الاعتداءات الايرانية المتواصلة، بدعوى النأي بلبنان عن الأزمة السعودية ـ الايرانية (!) بل إن باسيل، وهو حليف لحزب الله، حين أعلن ـ إعلاميا فقط ـ تضامن لبنان مع المملكة العربية السعودية ضد الاعتداء الذي تعرضت له سفارتها وقنصليتها في طهران ومشهد، لم يبرر في إطار العلاقات الأخوية المتميزة التي تربط البلدين، بل قال إن ذلك يأتي من باب "الالتزام بالاتفاقات الدولية ورفض انتهاك حرمة أي سفارة أو بعثة دبلوماسية"، ولم يكتف بتجاهل خصوصية العلاقات اللبنانية ـ السعودية في مسألة كهذه، بل حاول ايجاد المبرر لما حصل من الجانب الايراني حين ألمح إلى أن "أمر كهذا (الاعتداءات على السفارة والقنصلية السعوديتين) اذا حصل من خارج ارادة السلطات المعنية وتم اتخاذ ما يلزم من قبلها، فإن لكل دولة معنية الحق بتخطي هذا الامر أو عدمه لاعتبارات كبرى سيادية خاصة بها تتعلق بمصلحتها الوطنية"، أي أنه لا يرى أزمة من الأساس، وأن الموضوع لا يستحق الغضب السعودي!!.
يقول وزير الخارجية اللبناني أن "الاشتباك الإيراني- السعودي والاشتباك الكبير في المنطقة أدخلانا في أمور ثانية، فلبنان أخذ قراره الحكومي في الابتعاد عن هذه المشاكل، واعتماد سياسة النأي عن هذه الأزمات" وله كل الحق في ذلك، ولكن للمملكة ايضاً كل الحق في أن تسحب دعمها ومساعداتها لدولة اختطفت بعض الدوائر فيها قرارها السيادي بعيداً عن مصلحة شعبها، والأمر في هذه الحالة أيضا ليس فيه أزمة ولا يستحق الغضب مثلما اعتبر ممثل لبنان الرسمي أن الاعتداء على سيادة السعودية لا يعد أزمة ولا يستحق الغضب!!.
بالتأكيد يدرك وزير الخارجية اللبناني أن عزل لبنان عن الاجماع العربي في الظروف المعقدة الراهنة التي تمر بها المنطقة لا يصب في مصلحة الشعب اللبناني، الذي يحتاج إلى حاضنته الاستراتيجية العربية في مواجهة أخطار التدخل الخارجي من جانب قوى اقليمية مذهبية مثل إيران، أو أخطار الحروب التي تدور في جواره الاقليمي في سوريا وغيرها، فلا يغيب عن ذهن أتباع "حزب الله" في الحكومة اللبنانية أن تفكيك العلاقة بين لبنان وداعميه الاقليميين يمثل خطوة أساسية قبل الأبواب لإيران واتباعها للتحكم تماماً في مستقبل لبنان ومصيره بعيداً عن عروبته.
لم يكن موقف "النأي بالنفس" غير المبرر في يناير الماضي هو الأول الذي تتخلى فيه الحكومة اللبنانية عن دعم السعودية تنفيذاً لإرادة حسن نصر الله، وسبقه عملية "عاصفة الحزم" لدعم الشرعية الدستورية في اليمن، ثم رفض التحالف الاسلامي ضد الارهاب، وتجاهلت مصالح الدولة اللبنانية التي حصلت على نحو 28 مليار ريال سعودي كمساعدات من الرياض منذ عام 2000 ، فضلا عن مصالح الشعب اللبناني الذي يعيش نحو نصف مليون من ابنائه في السعودية وتسهم تحويلاتهم الضخمة في مساندة الاقتصاد اللبناني بقوة.
يقول البعض أن السعودية ودول مجلس التعاون اقد كتشفت متأخرة أن لبنان جزء من النفوذ اللبناني، وهذا أمر غير دقيق، فالحقائق واضحة للعيان منذ سنوات، ونفوذ "حزب الله" في السياسة اللبنانية غير خاف على أحد، ولكن الكيل طفح كما يقال، ولم يعد هناك مجال للصمت على هذا العبث بمصالح الدول العربية وشعوبها من جانب إيران ووكلائها في هذه الدول.
القرار السعودي، المدعوم إماراتيا، ليس موجه ضد الشعب اللبناني، فالبيان الرسمي السعودي واضح وجلي، وأكد أن القرارات ضد مختطفي إرادة لبنان وشعبه، وأن المملكة ستواصل دعمها للشعب اللبناني الشقيق بطوائفه كافة، وأنها لن تتخلى عنه وستستمر في مؤازرته، ما يعكس فلسفة الموقف السعودي وأهدافه التي لا علاقة لها بعقاب الشعب اللبناني كما يزعم البعض، بل تستهدف في حقيقة الأمر وضع الشعب اللبناني في موقع الحكم والقاضي حيال سلوكيات بعض أطراف حكومته، ممن يحتطفون الإرادة الشعبية ويوجهون دفة القرار اللبناني على عكس إرادة اللبنانيين ومصالحهم، وهو الموقف الذي أكده أيضاً بيان وزارة الخارجية الاماراتية، الذي سلط الضوء بقوة على الإشكالية الحقيقية، التي تعانيها الدولة اللبنانية والمتمثلة في أن "القرار اللبناني الرسمي بات مختطفا ضد مصلحة لبنان ومحيطه العربي كما يبدو واضحا من هيمنة ما يسمى بـ"حزب الله" ومصادرته للقرار الرسمي اللبناني مما أسفر عن موقف لبناني متباين ضد المصالح العربية الجامعة".
&