تحليل سياسي اقتصادي
الأمن الاقتصادي العالمي مقابل أمن واستقرار العراق



الجانب الاقتصادي من الموضوع: كان الرئيس ريجان هو أول رئيس أمريكي تحدث عن حل طويل الأمد للوقوف بوجه الابتزاز، كما يعتقد، ذلك الذي كانت تمارسه بعض الدول المنتجة في العالم ودول الأوبك، وكان منها العراق طبعا حين أعلن مقاطعة أمريكا، وهو بذات الوقت كان يبيع أكثر من سبعين بالمئة من نفطه لها، ولكن بالرغم من ذلك أخذت الولايات المتحدة هذا التهديد على محمل الجد فوضعت له كوابح بقيت تعمل منذ ذلك الوقت ولحد الآن. فالأسلوب الذي اتبعته الولايات المتحدة آن ذاك هو التحكم بالعرض والطلب في آن واحد، وذلك بزيادة الخزين الإستراتيجي لكمية كبيرة من النفط بحيث تبقى لفترة طويلة دون أن تلجأ لشراء نفط من أية جهة كانت، وهذا من شأنه أن يقلل كثيرا من تأثير الزيادة بالطلب على آليات السوق النفطية التي كانت تتحكم به الأوبك، ولكن طبعا لم تستطع الولايات المتحدة أن تحقق ذلك الهدف بالكامل، فتراخت بالمشروع بعد تبدل القيادة الأمريكية برئاسة من الحزب الديمقراطي، ولم يستطع المشروع بلوغ قدرة تخزينية تزيد على شهرين أو أكثر بقليل لسد حاجة الاستهلاك اليومي الأمريكي كخزين الاستراتيجي. أما الجانب الآخر من الخطة فقد كان التحكم بالعرض، والوسيلة التي اتبعتها الولايات المتحدة هي زيادة القدرة الإنتاجية من الحقول التي تنتجها الشركات الأمريكية في العالم أجمع، فزادت من القدرة الإنتاجية للسعودية مثلا إلى اثني عشر مليون برميل يوميا، ولكن مع مرور الزمن تناقصت هذه القدرة في الإنتاجية تدريجيا لتصل إلى أقل من عشرة ملايين برميل يوميا في الوقت الحالي، ومع تطوير حقول جديدة حاليا سوف تصل إلى أحد عشر مليون برميل يوميا خلال الأسابيع القادمة.
كانت هذه الإستراتيجية هي التي حدت من زيادة أسعار النفط خلال تلك الفترة بشكل كبير، ولكن مع تزايد الطلب العالمي ووصوله إلى حدود تفوق قدرة الحقول المنتجة في العالم حاليا جعل من البرميل ينطلق محلقا بسعره إلى حدود فاقت الخمسين دولارا خلال بضعة أشهر من هذه السنة. في الواقع كان إنتاج الأوبك قبل ما يقرب من ثلاثين عاما قد بلغت 32 مليون برميل يوميا وتناقصت في بعض دول الأوبك وازدادت في دول أخرى، ولكن بقيت بحدود ال 32 مليون برميل كطاقة قصوى لهذه الدول. في الوقت الذي كانت هناك الكثير من التغيرات على صعيد الطاقة تجري في العالم زيادة ونقصانا، إلا أن الحديث يجري هنا فقط على حاجة العالم لنفط أوبك تحديدا، إذ بقيت الحاجة له تزداد لتصل اليوم أعلى بقليل من المعروض منه وهو ال 32 مليون برميل يوميا في حين كانت الحاجة له قبل عشرين سنة لا تتعدى 19 مليون برميل يوميا. لهذا السبب بقي التحكم بأسعار النفط كبيرا وبقي على مستويات متدنية نسبيا لصالح المستهلكين وعلى حساب دول الأوبك.
من الواضح حاليا إن هناك خللا في العرض مقابل الطلب العالمي على النفط، لذا بدأت الانطلاقة الصاروخية لأسعاره والتي أوصلته خلال فترة قصيرة للأسعار التي كان يجب أن يصل إليها منذ عقد من الزمان. فقد كانت التوقعات فبل البدء بإستراتيجية ريغان الأمريكية هو أن يصل سعر النفط في العام ألفين إلى الحدود التي وصل إليها الآن، أي إن السعر مازال أقل من السعر الحقيقي الذي يجب أن يباع به، وذلك بالرغم من الارتفاع الهائل في سعره خلال العام الحالي.
احتياجات السوق أكثر من الإنتاج، أو العرض أقل من الطلب، هذا بالتأكيد هو السبب وراء الزيادة بأسعار النفط، بالرغم من أن البعض يضع اللوم على التخوف من آنية مختلفة، وهذه أيضا صحيحة إلى حد ما، حيث أن السوق لم تعد تتحمل أي نقيصة بالإمدادات النفطية، فقد وصل الأمر بأن تزداد الأسعار من مجرد إضراب بسيط في نيجيريا لعمال شركة تنتج بضعة مئات من البراميل يوميا متسببة بزيادة السعر دولارا أو اثنين، وحين ينتهي الإضراب لم يعود السعر لما كان عليه قبل الإضراب بل يواصل الارتفاع محلقا دون اكتراث لتوقعات المحللين الاقتصاديين، لأن الحقيقة وراء الزيادة هي النقص الحقيقي بإمداد السوق بما يكفي من النفط الخام وليس الإضراب، ومهما حاولت التوقعات الوهمية التي تصدر من المختصين والتي تشرف عليها بعض الدوائر السياسية في العالم، فإنها سوف لن تستطيع الحد من صعود السعر للحد الذي يتوازن به الطلب مع المعروض في السوق، حيث المطلوب هو التوازن الحقيقي بين الاثنين.
من هذه النقطة بالتحديد ندخل للجانب السياسي من الموضوع، حيث من هنا تأتي أهمية إعادة الاستقرار للعراق بالنسبة للعالم، فالعراق هو الوحيد القادر على إعادة الاستقرار في سوق الطاقة للعشرين سنة القادمة على أقل تقدير، فالعراق فيه من الاحتياطيات النفطية القابلة للتطوير اليوم ما يزيد كثيرا عن احتياجات السوق العالمية وبهذا سيكون هو عصى موسى للحد من ارتفاع الأسعار بشكل خيالي، بل يمكن أن تكون الزيادة طبيعية ويستطيع الاقتصاد العالمي استيعابها بسهولة تامة، وهذا ما لا يختلف عليه اثنين من العارفين بطبيعة الحقول العراقية والإمكانيات التي يتمتع بها البلد لدعم عملية التطوير، فالعراق جاهز في الوقت الحالي لتطوير حقول نفطية جديدة وزيادة المعروض في السوق العالمي بما يزيد على ثلاثة ملايين برميل يوميا وذلك خلال سنة أو سنتين، وإلى عشرة ملايين أخرى خلال خمسة إلى عشرة سنوات من الآن شرط توفر الأمن والاستقرار السياسي في البلد، وذلك دون أن تكون هناك زيادة تذكر بإمكانياته الأخرى التي تدعم العملية الإنتاجية للمرحلة الأولى من هذه الزيادة.
ربما كان هذا هو أحد الأسباب الحقيقية وراء الإصرار الأمريكي البريطاني للعمل مع العراقيين من أجل التخلص من الطغمة الصدامية التي كانت تتحكم برقاب الخلق في العراق والعالم أجمع. للقارئ أن يتخيل أن صدام مازال في السلطة ويستطيع أن يتحكم برقاب العالم أجمع وليس العراقيين فقط من خلال حاجته للطاقة، فسوف يبتز الجميع ويحقق كل رغباته الشريرة والعالم يقف مكتوف الأيدي لا يستطيع الدفاع عن نفسه أمام الشر المطلق التمثل بهذه الكارثة البشرية، صدام وطغمته الجائرة حدود الجور.
بلا أدنى شك سيكون هناك شتاء قارص في أوربا والعالم هذه السنة، أول بوادره ظهرت في لبنان الذي سوف يشهد أبرد سنواته في التاريخ الحديث، دولا أخرى تكاد أن تبكي من الأسعار العالية حاليا والزيادة المحتملة في الأسعار، خصوصا بعد أن تأكدت من حقيقة أن العراق سوف لن يدعمها بمنح نفطية بأسعار مخفضة أو دون مقابل، فعلى هذه الأنظمة أن تفهم أنها لن تستطيع ابتزاز العراق لكي يقدم نفطه بلا مقابل كما كان يفعل صدام الذي يهب ما لا يملك من أجل أن يبقى، لذا عليهم نسيان أيام صدام الربيعية بالنسبة لهم والدامية بالنسبة للعراقيين والتفكير بعقلانية أكثر، فالشتاء المقبل سيكون أكثر رحمة عليهم من مواسم البرد التي سوف تأتي بعده، فإني أتوقع أن تتوقف السيارات في بلدانهم لارتفاع أسعار النفط، وستتوقف معظم المصانع لارتفاع أسعار الطاقة، وسوف تزداد البطالة وما لها من انعكاسات على حياة المجتمعات التي تفتقر لهذه السلعة وخصوصا الفقيرة منها. وإذا كان الجميع يراهنون على ضعف العراق في الوقت الحالي، ويبتزوه بأمنه، فإنهم لا يعرفون إن المستقبل ليس لصالحهم بل لصالح العراق، أما لو كانوا الآن كرماء معه وصادقين بمشاعرهم وبأفعالهم، فالعراق، بلا أدنى شك سوف يوفر لهم البدائل الكثيرة التي تستطيع تعويضهم، أما لو بقيت هذه الدول تذل العراق، فإن المستقبل سيكون مظلما لها، آن ذاك سيندمون ولات ساعة مندم.
الزيادة الحالية في أسعار النفط ربما تعوض العراق في الوقت الحالي بعض ما كان يطلبه من المجتمع الدولي، فقد كان العراق يطلب مبالغ لا تزيد على خمسين مليار دولار لكي يعيد بناء بنيته التحتية ويستعيد الأمن لربوعه، وها هو اليوم يحقق من النفط نصف هذا المبلغ وسوف يتضاعف في السنة القادمة، والله الغني عن أية مساعدة من أجلاف هم بحاجة لنا أكثر من حاجتنا لهم، وفي النتيجة سيكونون هم الخاسرون. بهذه الإمكانيات سوف يتعافى العراق، ولا يمكن أن يرجع التاريخ للوراء، فهو المستحيل بعينه، ودونه الدم، ومن لا يعرف العراقي عبر تاريخه الطويل عليه أن يستمر في غيه ولكن سيكون الثمن غال جدا على الجميع الذين لم يتعاملوا اليوم بصدق مع العراق.
أما بالنسب للعالم، فليس أمامه سوى حل واحد فقط لا غير، هو تطوير حقول العراق العملاقة التي باستطاعتها أن تمده بالنفط وبمعدلات عالية جدا تحد من ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، وربما تخفض الأسعار بما يتناسب مع الأداء الاقتصادي العالمي حاليا. ولكم بفرنسا أفضل مثال على العهر بالتعامل مع القضية العراقية، فهي التي بقيت تساند الدكتاتور قبل سقوطه وتزعمت محورا آثما من الغربيين والآسيويين والعرب لدعم الطاغية، من أجل الحفاظ على العقود التي قدمها صدام لهم والتي بموجبها يمنحهم ربع المخزون النفطي في حقول مجنون وبزركان والفوقي، وبعد سقوطه ضلت تعمل باستماتة على إفشال العملية الديمقراطية وإعادة الأمن لربوعه، ظنا منها أن تعيد عجلة التاريخ للوراء، واليوم تحاول إهانة الشعب العراقي بدعواها لمشاركة ما يسمونه بالمقاومة في مؤتمر القاهرة بحيث يجلس الزرقاوي مقابل أياد علاوي في هذا المؤتمر لتقرير مصير العراق! وبقيت حتى هذه اللحظة مصرة على هذا النوع المهين من المشاركة دون اكتراث لمشاعر شعبنا الذي تسيل دماءه على أيد هؤلاء الأوغاد. ولم تكتفي فرنسا بذلك، بل تزعمت عصابة من الذين يريدون ابتزاز العراق وإبقاءه مدينا لهم طيلة حياته بإصرارهم على ديون وهمية ما أنزل بها من سلطان، فهي أموالا ربما كانوا منحوها لربيبتهم صدام لأغراض لا يعرفها غير الطاغية نفسه وهم طبعا، فما شأن العراق بها؟ فأمام العراق اليوم المحاكم الدولية، وهي التي سوف تحكم بيننا كشعب مظلوم ودولا ظالمة تريد نهب العراق بدون وجه حق. هذا المثال على أسلوب التعامل مع العراق بليغ جدا، وسوف ينعكس على فرنسا ومن حشدتهم في صفها بالويل والثبور حين تبدأ عجلة الإنتاج في العراق من جديد.
وأخيرا، من أجل توفير مناخ مناسب لتطوير حقول جديدة في العراق تساهم باستقرار اقتصادي عالمي أجد لزاما على جميع الدول التمسك بهذه الأوليات:
1.على العالم العمل بسرعة على إعادة الأمن للعراق وذلك بدعم جهود الحكومة، من دون ابتزاز.
2.على العالم العمل بأقصى سرعة على إعادة الأعمار في العراق، من دون ابتزاز.
3.على العالم العمل بسرعة على إلغاء الديون العراقية، من دون ابتزاز.
4.على العالم دعم عملية تطوير القوى البشرية في العراق، فالعراق سون لن يستورد عمالة من أية جهة كانت، فعليه أولا أن يوظف أبناءه ويؤهلهم أولا قبل أن يفكر بجلب عمالة أجنبية للعراق، وهذا أيضا يجب أن يكون من دون ابتزاز.
إن من لا يرغب بأن يكون إيجابيا مع العراق بهذه الطريقة، سوف يكون من الخاسرين بلا أدنى شك.

[email protected]