بداية عام 1980 تم سوقي الى خدمة الاحتياط (كل عراقي كان مطالب بخدمة في الجيش مرة كخدمة اساسية ومرات عدة كخدمة احتياط) وقد تم نقلي الى احدى الربايا ( الربية هي مجموعة عسكرية تعيش في موقع واحد وتقل عن الفصيل) على الحدود العراقية التركية، قرب قرية اسنخ (سناط)، وكان في هذه الربية جنود من منطقة وسط العراق وبالاخص من قرى محافظة الكربلاء، فطبيعي كنت قد قدمت جديدا، واثار اسمي الغريب عنهم تساؤلات عن هويتي الدينية والقومية، وعندما فلت لهم انني مسيحي تفهموا وعرفت انهم يدركون وجود المسيحيين في العرق، ولكن عندما ذكرت لهم انني مسيحي اثوري (اشوري) اثارت انتباههم هذه الاثوري (الاشوري) لانهم قالوا انهم لاول مرة يسمعوها، طبعا متوقع الامر من اشخاص اميين، غير مطلعين على تاريخ بلدهم، ولكن المسألة تتعدى هؤلاء الى المتعلمين، الذين لا يعرفون عن مكونات الشعب شيئا، فاغلب العراقيين يدركون وجود العرب والاكراد والتركمان، ولكنهم يجهلون وجود الاشورين الكلدان والصابئة واليزيدية والكاكائية والشبك وعلي اللهية والارمن واليهود، والسؤال الذي يتبادر الى الذهن هو، من المسؤول عن ذلك، اليس في تغييب مكونات الشعب القومية والدينية اجرام بحق الشعب ووحدته الوطنية، لماذا لم يقم التعليم بدور تعريف ابناء الوطن بعضهم الى البعض؟

بلا ادنى شك ان عملية التغييب، كانت عملية متعمدة، فنتيجة للايديولجية الشوفينية التي تحكمت بالعراق، والتي رفضت الاعتراف بالاخر، وخصوصا القومي، فقد حاولت محو هذا الاخر من الذاكرة بعدم ذكره، اي قتله معنويا، في الطريق الى صهره واذابته وازالة كل ما يظهره مختلفا. لان تلك الايدولوجية كانت تؤمن بالواحد المنفرد، وكل ما عداه فهو شذوذ، وان اعترفت بالاخر ففي ظلال الحراب فقط، اي انها لا تقر بالاخر الا بالقوة، وهكذا نرى ان الاعتراف بالاكراد لم يكن الا نتيجة لانتفاضة الاكراد، ولم يكن لان الايديولوجية تقر بذلك من ذاتها، ولقد تم تغيبنا عن المنهج الدراسي وتم تغييب نتاجنا الثقافي والحضاري وتم اعتبارنا وكأننا نزلنا من المريخ في ليلة حالكة السواد، ورفقا بنا اضفى العرب والحكام حمايتهم لنا.

ولان التغييب متعمد وليس سهوا، فلو اطلعنا على تاريخ العراق كمثال فأننا لن نجد شيئا عن الفترة الممتدة بين 539 قبل ميلاد السيد المسيح والى غزوات المسلمين للعراق، وهذه الفترة تقارب الالف عام، فهل انمحى الشعب الذي كان موجودا؟ بالطبع لا، ولكن في هذه الفترة استمر الشعب في منطقته وان كان خاضعا لدول او حكام اخرين، ومع انتشار المسيحية في العراق، انتشرت فيه المدارس والجامعات امثال جامعة نصيبين واورهاي وجندي شابور والدير الكبير، وكانت تدار اغلب هذه المدارس والجامعات، من قبل كنيسة كوخي في المدائن (ثلاثون كيلومترًا جنوب بغداد)، اي ان الرئيس الاعلى او البطريرك كان يقيم في هذه الكنيسة، وبالتالي كان يعتبر من هذا البلد، وباوامر من هذه الكنيسة خرجت بعثات التبشير وجابت سيبريا والصين والهند، وتلامذه هذه الكنيسة قاموا بترجمة الكتب من اليونانية الى السريانية ومن ثم الى العربية، وخريجي هذه المدارس كانوا اطباء الخلفاء العباسيين، لا بل ان اول وزير لمعاوية بن ابي سفيان كان منصور بين سرجون، الذي دخل لاحقا الدير وسمى بيوحنا الدمشقي.

في كتبنا المدرسية كنا نقراء عن تاريخ اوربا، وثقافتها واشعارا من اميركا الجنوبية وجغرافيتها وهكذا عن استراليا واسيا، وطبعا عن العرب من المغرب الى العراق، وادبائهم وكتابهم، ولكن لا نجد ذكرا لكاتب سرياني او تركماني، لم نقراء يوما شيئا عن الايزدية او نصا من كتبهم الدينية او عن المندائية.

في ما يسمى العراق الحالي او المدن التي كانت خاضعة لادارته الدينية مثل نصيبين واورهاي.

برز كتاب مبدعين، وشعراء عظماء، امثال افرام السرياني والسروجي والراس عيني ونرساي ووردة الاربيلي وخامس القرداحي وعوديشو الصوباوي، لا يتم ذكرهم كتراث او كصانعي تراث هذا البلد، طبعا لا اود ان انسي الكتاب والادباء من ابناء شعبنا العراقي من القوميات والاديان الاخرى، الا انني ايضا لست مطلعا عليهم كفاية، لانني اناايضا من نتاج هذه المدرسة التي غيبت كل ماهو ليس بعربي، وما عرفته عن تاريخ شعبي كان من خارج اطار الدراسة المنهجية او الرسمية.

ففي الوقت الذي نؤيد ان يكون طلبتنا على المام بثقافات الشعوب الاخرى، وان يتم اشعارهم انهم جزاء من هذا العالم ( فلكي ننتعش ونتجدد، يجب ان نفتح نوافذنا للتيارات الاتية من الخارج)، الا ان المفرروض ايضا ان يتم اعلامهم بمكونات شعبهم، من خلال ذكر دور هذه المكونات في التاريخ او تدريس نماذج من نتاجاتهم مترجمة الى اللغات العربية والكردية، وبالعكس، برغم ان ابناء ما بات يوصفون بالاقليات تطلع على ثقافات العرب والكرد لانهم ملزمين بدراسة اللغتين.

ابني يذهب الى المدرسة في المانيا، التي اعيش فيها، هل تدرون ما هي اولكلمتان
تعلمها في مدرسته ومكتوبة في كتابه، انها علي وليا( ALI ;LIA ) وطبعا تدركون ان اسم علي ليس المانيا، بل هو اسم عربي واسلامي، ولكن الالمان يدركون ان هذا الاسم موجود حاليا، وان لم يكن موجودا قبل خمسين عاما، انهم لا يتنافرون من المخالف من الاخر، بل يحاولون ادراجه واستيعابه كما هو وليس بالمنته.

اذا لكي لا نخاف على وحدتنا الوطنية، ولكي نجعل اجيالنا المستقبلية تعي ان العراق ارضا ووطنا، يتكون من مجموعات بشرية مختلفة اللغات والديانات والتقاليد، الا انهم بمجموعهم يكونون الشعب العراقي، وان تطلع هذه الاجيال على نتاجات الادبية والفكرية لكل مكونات الشعب العراقي، كما على الجميع دراسة تاريخ العراق الحقيقي والواقعي وليس التاريخ المفترض، الذي يتجاهل مكونات العراق، لان التجاهل يخلق هذا السؤال ومن اين اتوا هؤلاء؟ برغم من ان بعض من هؤلاء هم اقدم بكثير ممن يسمون اليوم بالاكثرية، فلبناء وحدة وطنية راسخة وسليمة،لنبداء من الكتاب المدرسي، الوطني.