كان تغيير نظام الاستبداد العشائري في العراق حاجة شعبية عميقة وضرورة انسانية ملحة لكل القوى السياسية والاجتماعية القائمة. لكن هذا التغيير جاء بفعل خارجي بحت. فقد اخفقت القوى السياسية العراقية في تعبئة العراقيين في انتاج فعل سياسي مشترك وهادف. ولم تستطع تقديم أي بديل سياسي فعال يسحب البساط من الشمولية الطائفية. من هنا لبث الفعل السياسي لاغلبية الناس يتسم اما بالاتكالية واللاأبالية او بطابع عفوي، انتقامي وراديكالي. وغدت عملية التغيير السياسي في البلاد مفتوحة على خيارات مختلفة لعل خيار الديمقراطية هو اصعبها.
مما لا شك فيه ان سياسة الترهيب والترغيب والقتل المنظم الذي مارسته الاجهزة الامنية والايديولوجية لنظام صدام حسين لعبت دورا اساسيا في تهميش فكر المعارضة وممارستها. وهذا ما افقدها امكانية التأثير السياسي داخل العراق. كما غرس التدخل المفرط للحكومات المتعاقبة و لاسيما بعد عام 1958 في الحياة الاقتصادية والسياسية شعورا عميقا لدى كثيرين بانهم مجرد رعايا "دولة" ابوية تعتني بهم من كل الجوانب. ثمة حكام كثيرون في تاريخ العراق المعاصر وابرزهم، بلا شك، صدام حسين من كان ينمي هذا الشعورا الابوي لدى الناس تنمية واعية ومخططة. فضلا على ذلك، فان نخب المعارضة العراقية لم تكن متوحدة، توحيدا فعالا، حول خيار الديمقراطية. لكل ذلك جاء اسقاط نظام الشمولية الطائفي في وقت لم تكن فيه النخب الثقافية ولا القيادات السياسية متهيأة لتعبئة العراقيين حول مشروع الديمقراطية.
شىء عن الداخلي والخارجي في نمو الديمقراطية
ان اسقاط نظام سياسي استبدادي طائفي وبطريقة نخبوية فوقية او بوسيلة الحرب بل حتى عن طريق ثورة اجتماعية تقودها قوى غير ديمقراطية لا يعني، بالضرورة، ان تغييرا ديمقراطيا قد تحقق. تغيير بمعنى الدخول في عملية بناء نظام سياسي ديمقراطي. ثمة مسافة خطيرة تفصل ما بين تغيير نظم الاستبداد واقامة بدائلها الديمقراطية. هناك بون يفتح سيرورة الحياة على آفاق مختلفة. الديمقراطية ليست سوى خيار واحد بين خيارات كثيرة. الديمقراطية تعني في هذا السياق اشراف الشعب على سلطة صنع القرارات العامة. وتعني مساواة وحريات سياسية وحقوق مدنية ودستورية مصانة من قبل قضاء مستقل. وتعني انتخابات حرة وعادلة ومباشرة وحكومة مسؤولة وشفافة. قد تتحقق الديمقراطية ضمن تلك المسافة المذكورة. وقد تختطف العملية السياسية من قبل قوى سلطوية جديدة ترمي بها ابعد ما يكون عن الديمقراطية.
تاريخيا، ثمة طرق مختلفة ولدت عبرها الانظمة الديمقراطية المعاصرة في مختلف البلدان. ففي اوربا الغربية كبريطانيا والسويد نشات عن طريق تطورات تاريخية طويلة الامد، اقتصادية وسياسية واجتماعية وفكرية. وفي بلدان اشتراكية سابقا مثل بولندا والجيك والمجر انبثقت عن طريق ضغط نخب سياسية معارضة راحت تستند اكثر فاكثر على قاعدة شعبية عريضة ومتنامية. هنا النخب والقواعد الاجتماعية ارادت ووعت اهمية التغيير الاجتماعي السياسي وادركت آفاقه الاقتصادية والسياسية. وهناك طريق ثالث مرت به بعض بلدان امريكا اللاتينية وكذلك البرتغال واسبانيا واليونان تميز بان النخب الحاكمة ذاتها اخذت من داخل ثنايا النظام القائم تعلن التزامها بتحويل النظام السياسي ديمقراطيا.
ان المعنى العميق المستمد من هذه الحالات هو ان ولادة الديمقراطية تجسيد لصدى مباشر لتحولات تنبثق من قاع المجتمع، بصورة او باخرى. تنطبق هذه الخلاصة حتى على تلك البلدان التي سلكت طريقا خاصا في تطورها الديمقراطي مثل اليابان والمانيا. ففي هذين البلدين انبثقفت الديمقراطية فيها بفعل قوى خارجية (امريكا في كلتي الحالتين) فرضت البديل الدستوري والبرلماني على الطبقة السياسية الحاكمة. أي حتى في حالة هذين البلدين فان المجتمع كان يحمل في جنباته شروطا اقتصادية واجتماعية وسياسية مناسبة لقيام الديمقراطية.
معطيات نمو الديمقراطية
اما في العراق فان شروط التغيير الديمقراطي معقدة ايما تعقيد. فليس هناك مستوى مناسبا من التطور الاقتصادي ينعكس في مستويات معقولة من الدخل الفردي. على العكس ثمة فقر شعبي واسع. ذلك ما يحبر الناس على الاهتمام بتدابير المعيشة المباشرة فقط. ويجعلهم ويصارعون، وجدانيا وعمليا، في دائرة تلبية الامور المعيشية ولا يلتفتون الى حقوقهم السياسية ومسؤولياتهم كمواطنين. وتفتقد البلاد، ارتباطا بذلك ايضا، لطبقة وسطى عريضة، طبقة قد تهتم، حيويا، بتحديث البنى السياسية والاجتماعية والثقافية. اما الثقافة السياسية فهي مثقلة بطبقات كلسية من الانكفاء الاناني على الذات والماضي والاوهام والقدرية والاتكالية والنظرة الغيبية والجمود. وتعاني سياقات عمل النخب السياسية والثقافية و وفكرها من اسقاطات نرجسية حادة. وتنتشر نزوعات لتفخيم الذات على حساب الموضوع. وتسود انفعالات عاطفية تشوه المعرفة التحليلية الموضوعية. لذلك وغيره من الاسباب فان النخب السياسية والثقافية التي قد تكون مهتمة، حقا، بدفع العراق في آفاق رحبة من الديمقراطية قليلة، عدديا، وضعيفة، بنيويا.
قد يكون للعامل الخارجي كالحرب وسواها دور ضروري مهم، تاريخيا، في ازاحة سلطة سياسية شديدة الاستبداد والبأس، امنيا وبوليسيا واقتصاديا. سلطة ما كان يمكن تخيل ان القوى الداخلية المعارضة ان تطيح بها. بيد انني لا اعتقد بامكانية فرض الديمقراطية بالقوة المجردة على بلد لم يخلق شروط تنميته الديمقراطية داخليا، بعد. من الصعوبة بمكان تصورحصول تطورات ايجابية جدية على عملية زرع الديمقراطية في بلاد لم تنتج بعد حاضنات سياسية اجتماعية فاعلة لجعل القيم الديمقراطية تترعرع بسرعة. بلاد ليس فيها وعيا اجتماعيا عميقا بضرورة الديمقراطية. وربما سيكون الاخفاق الذريع مآل هذا الفرض القسري.
يمكن للعامل الخارجي- بل من الضروري ايضا- ان يلعب دور العامل المساعد، كاشفا الطريق للوليد الجديد وحارسا اياه ودافعا لنموه للامام. ولكن ذلك ممكن فقط في حالة تنمية حاضنات الديمقراطية المحلية والارتباطات الداخلية.
وما دامت اقسام اساسية من المجتمع لم تتبنى بعد بوضوح مطلب التغيير الديمقراطي الاقتصادي او السياسي فان الديمقراطية تبقى املا نخبويا اكثر منه مطلبا جماهيريا.
وفضلا على ذلك، فثمة اختلافات ثقافية وحضارية وفي مستوى التطور الاقتصادي وفي طابع الهوية والتعدد الاجتماعي للبلدان المذكروة آنفا عن العراق. لعل طبيعة التطور الديمقراطي في العراق وآفاقه ستكون مشابهة لما يحدث في افغانستان او في نيجريا او ماليزيا. فهذه البلدان تحمل تشابهات بنيوية رئيسية مع العراق كتشظي البنية الاجتماعية وتعدد الهويات والاثنيات والقوميات ووجود ثروات معدنية مهمة وتخلف الثقافة السياسية الديمقراطية ودور الدين.
بعض شروط ترعرع الديمقراطية
فعلى أي من المعطيات والثوابت يراهن انصار ودعاة العملية الديمقراطية- بعيدا عن التمنيات بحسن نية النخب السياسية السائدة وصدق القصد وسلامة الممارسة السياسية النخبوية؟ ليس هناك، للاسف، الكثير من المعطيات الايجابية.
بقناعتي ان الديمقراطية كنظام سياسي تنمو اول ما تنمو في ضمائر النخب السياسية والثقافية. تنمو في اصلاب المثقفين والفاعلين السياسييين حتى تصبح مكونا عضويا من مكونات تشكيلة مصالحهم الحياتية وقيمهم وانماط سلوكها. يمكن للديمقراطية ان تتجذر في ضمائر الناس وعقولهم فقط بعد ان تقوم هذه النخب عبر تنظيماتها السياسية ونشاطاتها الثقافية والفكرية في تعبئة قطاعات واسعة منهم في سياقات سياسية ومدنية شعبية. وفوق ذلك، فان تحويل الديمقراطية الى مرجعية قيمية، اجتماعيا، لتشمل ليس النظام السياسي فحسب بل وتمتد ايضا الى البيت والعائلة والمصنع والشارع يتطلب عملا اصلاحيا، ثقافيا، تعليميا، تربويا وقانونيا صبورا وطويل الامد. واذ ينطبق هذا القول على كل الديمقراطيات قاطبة فان مفعوله اوضح وأخطر في العراق. فان التحول باتجاه الديمقراطية في العراق لم يأت نتاجا لثورة سياسية او اصلاح سلمي طويل الامد من داخل النظام او عبر عمليات اقتصادية اجتماعية ممتدة في الزمن.
ثمة، اذن، اهمية كبيرة لدور النخب السياسية والثقافية في العراق في قيادة عملية التغيير الديمقراطي. يأتي ذلك، قبل كل شىء، عبر قنوات المؤسسات التمثيلية والدستورية والانتخابية ونشر الثقافة والممارسة الديمقراطية. وهذا يفترض-اصلا- ان تتقبل هذه النخب ذاتها مبدأ الخضوع الى منطق التفاعل والصراع الديمقراطي. وهو منطق قد يكون ثقيل الوطأة بنتائجه غير المرغوبة للبعض، احيانا.
من المستبعد تماما ان نتوقع ان بمقدور النخب العراقية ان تحمي العملية الديمقراطية الوليدة من اعداءها الكثيرين المتربصين بها. وقسم مهم من اعداءها منتشرون بين النخب ذاتها. فمن المعلوم ان النخب السياسية العراقية المنخرطة الان في سياقات بناء المؤسسات قد وجد اغلبها نفسه اما مرغما او منجرفا- اما بضغط العامل الخارجي المطالب باقامة هذه المؤسسات أوبضغط الشارع العراقي الكاره لنظام شمولية صدام الطائفية - في خوض غمار عملية ديمقراطية مشرعة الابواب على احتمالات السقوط والانهيار او الصمود والنمو. كما ان اغلب هذه النخب السياسية فضلا على العديد من النخب الثقافية قد برزت في سياقات تنظيمية وفكرية وسياسية لا تمت بكبير صلة للعملية الديمقراطية، مضمونا وممارسة. ولم يشكل المشروع الديمقراطي بالنسبة لها إلا ضرورة خارجية غامضة الملامح.
بدون تزايد مشاركة قطاعات عريضة من المواطنين العراقيين في عملية صنع القرار السياسي والخضوع له فان العملية الديمقراطية ستبقى رهينة سياسات نخبوية معلقة على اعمدة هشة ومعرضة للانهيار السريع. ان تحويل المزيد من صلاحيات الحكم والادارة الى خارج المركز السياسي، الى المناطق المحلية على مستوى المحافظات والنواحي والاقضية يمثل احد الوسائل الفعالة في تسهيل انخراط عدد اكبر من الناس في سياقات عمل سياسي ذي مضمون وطني ديمقراطي. ذلك لان تحويل صلاحيات اتخاذ القرارات المتعلقة بالقضايا المحلية لاهالي هذه المناطق ونزع سطوة السلطة المركزية سيجعل الممارسة الوطنية الديمقراطية قريبة التناول وملموسة وذات معنى بالنسبة للمواطن. ولك هذا يفترض، بدوره، قواعد سياسية واضحة مصونة دستوريا على مستوى مركزي.
الامل بنمو دولة القانون واستمرار عمل القوى الديمقراطية
ليس هناك الكثير من الثوبت الايجابية المتينة لترعرع الديمقراطية في العراق. الامل الوحدي القائم، بتقديري، هو نمو دولة قانون في البلاد واستمرار عمل القوى الديمقراطية الحقيقية. ولكن ارهاب الثورة المضادة بمصادره الداخلية والخارجية. وسوية مع الفساد المستشري (وهو شكل قبيح من اشكال الثورة المضادة) يضع الارهاب صعوبات فادحة امام نمو دولة القانون. ويجبر الارهاب والفساد القوى الحية على تقديم خسائر فادحة.
هناك امل ان تعي الكيانات السياسية العراقية ان لها مصلحة استراتيجية في ترسيخ عملية تكوين مؤسسات دولة القانون الوطنية. فالبديل حرب اهلية محتمة.. والصراع على موارد الكيان المركزي الاقتصادية والسياسية والمعنوية سيدمر الجميع. لا مفّر، اولا، من ان تدين النخب السياسية والثقافية الفاعلة بالولاء الثابت لروح العدل والمساواة والشرعية السياسية. وكلها قيم اساسية تجسد في دولة القانون. لا يمكن للديمقراطية ان تنمو في العراق بدون حكم القانون. ولاحكم للقانون بدون اقامة مؤسسات تعمل بالعدل والشفافية. ان شلل مؤسسات الدولة في تطبيق القانون وفرض احكامه وبالتالي عدم تفعيل الدستور سيجعل من المستحيل مجرد التفكير باقامة نظام ديمقراطي فعال.
ولابد، ثانيا، ان تبذل تلك النخب كل الجهود لتعبئة اعداد متزايدة من الجماعات الاجتماعية المختلفة للانخراط في سياق حركة مدنية جديدة. حركة تهدف اولا وقبل كل شىء ترسيخ مؤسسات الدولة الوطنية الديمقراطية الوليدة.
هنا تكمن الضمانة الوحيدة للتغيير الديمقراطي في العراق.