يوماً شتويا وبلا موعد مسبق كنت وجها لوجه مع الدكتورعبد الاله الصائغ عبر لقاء اذاعي في الشبكة المتحدة. كان الحوار على درجة حرارة القلب، عميق وخصب وبليغ وكان عبد الالة في الضفة الثانية خلف الميكرفون متصوفا كعادته ثوريا حد التخمة مره و زاهدا حد البساطة مرة اخرى، يجيب على الاسئلة بصوت أجش خارقا السكون فيجبرك الاصغاء والاستماع.
كنت ساعتها اتنقل بين مساحات الكتب المتوزعة في مخيلتي والموسومة بإبداعات هذا الرجل فأجدني احسده وبعين بارده على الجرأة المخبأة ببطونها ومخزون التراث المتناسل في ذهنه وقدرته على إحراق الفواصل فيها. فما بين مفردات الشعر التي يمتلكها وبين مغامرته السندبادية في الحياة يشعرك وانت تجلس امامه او تحاوره ان في جعبته منجما مذهلا من المعاجم وقواميس متعدده للمعاني وصور مركبة للتاريخ قلما تجتمع مرة واحدة في شخص الا اذا كان حاملها عصفوراً من نار.
وعندما تتيح للصائغ فرصة ارتقاء منصة الشعر فانه يستل سيف نقده على حواف الحداثة واسمال القديم في دولة الادب مطالبا باستقلال جمهورية الشعر من الوصايا كي تحلق لوحدها بلا قيود او مطبات ساعتها يكون هو اول مغرد في سرب الطيور التواقة فيها.
اسعدتني كلماتك ايها الاستاذ الجليل وانا اتنقل كالطفل بين ازقتها افتش عن روحي وصورتي و انتماءاتي علني اتلقح بمدقات النرجس الخارجة من حروفها او برائحة الوطن الملفوفة بطيات الرازقي فيهالكني لا اخفيك فقد فقدت البوصلة من الوهلة الاولى لذا سرعان ما تلافيت الامر فعدت صياغة القراءة بلغة (الجدات) مرة اخرى فطفحت انذاك على السطح ملامح مبدع ووجه اديب احب الوطن والناس والشعر وهو جالس على حواف الصحراء ينتظر القادم. ينتظر نذير الحب و اغاني الموانئ و عذاب الغابات.
نعم سيدي أصبت بقولك نحن المبعدين عن معابد عشتار واضرحة الائمة وخبز التنور فينا من التأمل ما يخدش هلهولة عرس قادمة من هور الجنوب وفينا من الحنين ما يكفي لصناعة وطن. فهل أخطأنا الحسابات ام ان ضجيج التاريخ له رأى آخر فينا.
وأنت يا طائر الشعر يا ساكن متاهات القصائد أتعرف كم مؤلم ان تصاب بالجنون محطات العمر ومنصات الابداع فلا تسلم منها سوى أنين الغبار وأصدئة الكتب ورماد الأحلام، فتعال لنسرق الحيرة من مقاهي الاطفال ونجري فوق الارض كمتصوفين شرط ان نتوشح بالورد في هذا الغسق اللازوردي فان ممالك الابداع جفت وطفا سن اليأس يختزل السنين فجاء دور المتفائلين وزراع الياسمين او الغافين على جفن الريح ليعيدوا الى التفاح لونه والتربة عبقهاسرابا او يقينا لايهم فالوليد سيغني حتما طالما ارتأينا ان نزف رائحة الرازقي المتناثرة في حدائق بيوتنا الى خارطة الاصدقاء كي تتحول الى هوى الناس مثلما يقولها( كوكب حمزة) بحرارة ويرددها بعذوبة (سعدون جابر) في اغنية العشق المركب.
صحيح ان الحالمين لا يصنعون التاريخ لكنهم يشعلون الحرائق على ضفاف الحياة ويثيرون الزوابع في اقبية الزمان وهي علامة متميزة لا يرتقيها سوى المبدعين أمثالك وينفر منها النقيض والجالسون على مساطب الوهم واقصد المجانين. فالحلم تجربة والدفء قرار. واذا كانت الحياة لديها قدرة اختزال الارض والطيور والالوان في كلمة مهربة عبر قنوات بشرية فان الاسلم ان لا نحنط الذكريات في مستنقعات الوهم فالارض غير مضمونة الايام.

ديترويت أمريكا