يعاب على النظم الديمقراطية صمت الأغلبية، والتي لاتشارك في عمليات الاقتراع ولاتبدي اكتراثاً بالسياسات الحكومية، حتى تلك المؤثرة في حقوقها ومصالحها، ويعتبره علماء السياسة مؤشراً قوياً على ضعف الثقة بالنظام السياسي وتعبيراً احتجاجيا سلبياًً عن العجز من امكانية التأثير في قراراته ومؤسساته وأساليبه، أما صمت الأكثريات في النظم العربية اللاديمقراطية فهو، وحتى يثبت العكس، صمت المقهورين، من أباءهم تأدباً ومن حكامهم طاعة مفروضة لأولي الاستبداد.

بعد سقوط النظام البعثي المستبد في العراق زالت مبررات صمت الأغلبية، بل أصبح لزاماً عليها المبادرة إلى التعبير عن مطالبها، بأعلى الأصوات دون خشية من أتباع النظام السابق، حفاري قبور الصمت الجماعية، ولا من القوات الأمريكية المحتلة، والتي عليها أن تبرهن عملياً على صدق ادعاءاتها باحترام الحريات والحقوق، وفي مقدمتها حرية التعبير عن الرأي والتظاهر السلمي.

قبع الكثيرون منا، نحن العراقيين، في أعشاش الصمت بعد أن قرءنا البيت التالي من قصيدة خبيثة مغلفة بحكمة مصطنعة في أحد كتب القراءة للصفوف الإبتدائية:

فخرجت من عشها الحمقاء
والحمق داء ما له دواء
والضمير يعود على حمامة، خرجت من عشها لتقع فريسة صياد، والحكمة الخادعة أن نخلد إلى أعشاشنا حتى نموت جوعاً وقهراً، وهذا بالفعل ما حل بنا في القرن العشرين، وكل عقد فيه طوق أعناقنا بسلاسل وأغلال جديدة.

ظل تمثال الجنرال مود النحاسي، يرمق باحتقار واستعلاء العراقيين من فوق صهوة جواده العربي الأصيل شاهداً على صمت العراقيين حتى الإنقلاب العسكري في 1958، و كان السكوت على ادعاءه الأجوف بأنه دخل العراق محرراً لا محتلاً علامة الرضا والتصديق. ولم يحتج العراقيون على نصب تمثال لعبد المحسن السعدون، أول رئيس وزراء عراقي، وتخليد ذكراه بوضع اسمه على شارع رئيسي، وهو الذي أنهى حياته بيده منتحراً، والإنتحار خطيئة عظمى في شرع الله، ومخالفة خطيرة للقوانين الوضعية، وبأي معيار قيست وطنيته وبطولته، وقد كتب في وصيته باللغة التركية لا العربية، بأنه اختار الإنتحار لفشله في التوفيق بين أوامر المحتلين البريطانيين ورغبات الشعب العراقي بالإستقلال الفوري وانسحاب القوات الغازية؟ ولايزال حتى اليوم تمثاله الأصم يضج بالشهادة على الصمت المعيب.

وشجعهم الصمت شبه المطبق على تأسيس جيش، لا للدفاع عن العراق بالمقام الأول، وإنما لقمع تمردين متزامنين، واحد في الشمال وآخر في الجنوب، وبالفعل وعلى مدى ثلاث عقود من السنين كان الجيش العراقي، أو بالأحرى قادته، أما شركاء في الحكم أو متنافسون عليه مع النخبه الحاكمة من ضباط الجيش العثماني السابقين من أمثال نوري السعيد والعسكري والهاشمي، ولم يتردد هؤلاء القادة العسكريون في قصف مواطنيهم المدنيين بالطائرات والمدافع الثقيلة، كلما تجرؤا على الإحتجاج على قرار مجحف لوزير أو امتنعوا عن دفع رشوة لحاكم إداري، واستمروا على ذلك المنوال حتى 1958 حينما قرروا الإستئثار بالسلطة، فاصبحوا هم وحلفاؤهم من النخب المدنية سيوفاً مسلطة على أعناق العراقيين اللائذين بحمى الصمت.

وقد سبق الأمير عبد الإله قاسم وعارف الأول والبكر وصدام إلى التفريط بمصالح العراق العليا في سبيل تحقيق مآرب شخصية، وهو المعروف بطموحه إلى اعتلاء عرش سوريا حتى الهوس، واقحامه العراق في مؤمرات وأحابيل وتنافس مع قوى محلية، أتت ثمارها، مع غيرها من شجرات الفئوية والأحلاف الإستعمارية الخبيثة التي زرعها النظام الملكي البائد، انقلاباً عسكرياً متخلفاً، كان أول غيث المطر الأسود الذي أغرق العراق في فيضان دم وخراب على مدى أربعين عاماً، وعلى الرغم من كل أخطاء الأمير عبد الإله فقد كان السكوت على قتله والتمثيل بجثته خطيئة.

وشجع صمت الأكثرية قاسم على التمادي، في إلقاء خطبه الماراثونية الجوفاء، وفي تحويل العراق إلى ملهاة للعالم المتفرج على محكمته الثورية، وتسليطه الشيوعيين المدججيين بحبال السحل على المواطنين، الصامتين منهم والمتكلمين، وكان نصيبي من إرهابهم، وانا طالب في العاشرة من عمري، وضع حبل السحل في عنقي من قبل معلم شيوعي أمام مدير ومعلمي وطلبة المدرسة أثناء الإصطفاف الصباحي اليومي، وهم بين مهلل وصامت، ولازلت أتذكر كلماته: هذا مصير كل الإقطاعيين وأولادهم، وهذه مجرد لمحة خاطفة من الشريط التسجيلي لرعب لتلك الأيام السوداء.

وكان على قاسم أن يتعظ من التاريخ، فقد تكون مصادفة أن يقتل الملك غازي في حادث سيارة إثر مشروعه الوحدوي مع الكويت، وكذلك زوال النظام الملكي بعد أشهر معدودات من مطالبة نوري السعيد بضم الكويت إلى الإتحاد الهاشمي، ولكن ما أن تجرأ قاسم على تكرار المطالبة بضم الكويت، هذه المرة كمحافظة، حتى بدأ العد العكسي لزوال نظامه، والتهيئة لأحلال البعثيين محله يقلهم قطار أمريكي، كما وصف أحدهم إنقلابهم في عام 1963، وكانت تلك أول لدغة من الثعبان البعثي، ولو قبلنا بأنها فلتة، فكيف نفسر لأنفسنا وقوعنا ضحية لذلك الجحر الموبوء مرة ثانية؟ ولا حاجة لكم بالتذكير بإحتلال
الكويت ونتائجه المفجعة التي لم تنقضي بعد.

ولإن صام ومن سبقوه روضونا على الصمت لم نعترض على عدوانه السافر على إيران الإسلامية، والذي يعترف "محررونا" من صدام بأنهم كانوا محرضين عليه وشركاء فيه، وقد لايعلم البعض منكم بأن العراق كان دائماً في حسابات القوى الإستعمارية والإمبريالية حارسها للبوابة الشرقية، وقد كشف أنثوني إيدن، رئيس الوزراء البريطاني آبان العدوان الثلاثي على مصر، عن هذه السياسة الإستعمارية في مذكراته المنشورة باللغة الأنكليزية في 1960:

The whole Middle East، including the Persian Gulf، required to be defended on the frontiers of Iraq and this could only be done in co-operation with local forces. p.244

وليس سراً بأن التمرين السنوي لكلية الأركان العراقية، وفي عهود مختلفة، صد هجوم إيراني على وسط العراق، وانسجاماً مع مخططات القوى الإستعمارية وأتباعها فقد بادر صدام بالهجوم على إيران المتحررة من الهيمنة الأمريكية، مضحياً بأرواح مئات الألاف من أبناء الأكثرية الصامتة من العراقيين، على اختلاف أعراقهم ومذاهبهم.

ولم سكت العراقيون على إلحاد صدام في إسم الله جاهلاً أو متعمداً بزيادة الهمزة على إسم الجلالة عندما خط بيده (ألله) بدلاً من الله على العلم العراقي؟ والهمزة كما أكد سيبويه ليست من أصل الإسم، وإنما تدخل عليه في القسم والدعاء، فهل الصمت على ذلك يليق بموطن جهابذ العلماء وفطاحل الشعراء
ووارثي مدرستي الكوفة والبصرة في النحو واللغة؟

وحتى يدرك العراقيون فداحة الخسائر، التي سيتكبدونها فيما لو تلفلفوا بعباءة الصمت، واسدلوا الستار على المرير من ذكرياتهم، لابد أن يؤمنوا بأن الذهب الذي يوعدون به اليوم مقابل سكوتهم سيتحول إلى معدن رخيص أو حتى تراب، ليس بالمفعول العكسي لحجر الفلاسفة، وانما بالمكر الذي تزول منه الجبال، آنذاك لن ينفع الندم، وحينها ستسقط درر الكلام من الأفواه اللامفضوضة فحماً أسوداً، وسنضيف أنة وحسرة جديدة لسجل أحزاننا اللامتناهي، فهل سنتذرع غداً بحمارة القيظ، وزمهريرالشتاء، فتسقط الكوفة مرة أخرى بأيدي الطامحين إلى ربوبية البشر؟ أم سيتكررهدي الرؤوس اليانعة بالإيمان والعدل والتقى إلى سلطان فاسق جائرآخر؟ وكيف نصدق تحذير الفرزدق للإمام الحسين(ع) بأن عقول وقلوب العراقيين مع الحق وأيديهم مع الباطل؟ فالعقل هو المحرك، واليد أداة العقل، وإذا كان من الأفضل التعلم من أخطاء غيرنا فلا عذرلنا في عدم الإتعاظ من مصائبنا، والتاريخ يعيد نفسه عندما لانتعلم منه، فهل هنالك من يريد عودة الإستعمار المباشر أو غير المباشر ليوظفنا حراساً للبوابة الشرقية، أو إعادة بعث حكم الأحزاب النخبوية والفئوية وقادتها المتسلطين الدمويين، أمثال صدام حسين، وهل تقبلون التخلي عن ثوابتنا الدينية والقيمية والأخلاقية؟ اخرجوا من آسار الصمت قبل أن يظهر دعي جديد ناصباً نفسه ناطقاً بإسمكم، واسمحوا لي بأن أدلي بصوتي: لا استقلال وسيادة مع الإحتلال، ولا ديمقراطية دون سيادة كاملة وانتخابات حرة، وأخيراً حذار حذار فالمؤمن تعريفاً هو من لايلدغ من جحر مرتين، لذا يتوجب أن نتقصى مواطن الجحور في التاريخ، ونحصن أنفسنا وأخواننا باللسان، الذي هو درجة واحدة فقط فوق أضعف الإيمان.

* مستشار إداري عراقي يعيش في المنفى.