الحياة ليست عادلة دائماً، بل كثيراً ما تقسو على أولئك الذين يمتلكون القليل من الحظ والكثير من الجمال، كما لو أن الحُسن وحده أصبح عبئاً إضافياً على كاهلهم. كانت هي، تلك السيدة التي تقف في أوج شبابها، واحدة من هؤلاء. في الثامنة والثلاثين من عمرها، بدت وكأنها خرجت للتو من لوحة فنية رسمها فنان مغرم بالتفاصيل. جمالها الآسر، ملامحها النادرة، وبشرتها التي تعكس دفء شمس البحر، لم تكن كافية لتحميها من قسوة الواقع الذي صفعها بكل قوة.

لم تكن حياتها سهلة منذ البداية. تخلّى عنها زوجها، رجل لم يجد ملاذاً في البيت أو الأسرة، بل في زجاجة خمر وسجون اعتاد زيارتها أكثر من منزله. أطفأ غيابه الأمل الذي لطالما حاولت إحياءه في حياتها البسيطة. لم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد حملت أيضاً عبء ابنتها الوحيدة التي لم يكن زواجها أفضل حالاً. زوج ابنتها كان رجلاً له سجل طويل مع ثلاث زيجات سابقة، ومع ذلك أصبح والداً لأربعة أطفال كانوا أشبه بأحمال إضافية على أكتافها المنهكة.

أصبحت هي الأم والجدة والمربية والمعيلة في آنٍ واحد. كانت أيامها طويلة كلياليها، تعيشها بين تربية أحفادها ومحاولات لا تنتهي لحل مشكلات ابنها الغارق في مشاكله. كان منزلها البسيط، الذي بالكاد يستوعب الجميع، شاهداً على تلك الحياة الضنكة. ورغم كل ذلك، لم تفكر يوماً في الاستسلام أو رفع راية الهزيمة.

مع غياب الأمل في وطنها، قررت أن تخطو خطوة جريئة. شدّت رحالها إلى الولايات المتحدة، باحثة عن حياة أفضل، ليس لنفسها فقط، بل لأولئك الذين يعتمدون عليها. هناك، في بلاد الغربة، كانت فرص العمل قليلة والأبواب موصدة في وجه الغرباء. لكنها رفضت الانكسار، واستمرت في محاولاتها الحثيثة. وأخيراً، بعد جهد مضنٍ، وجدت عملاً كخادمة في أحد بيوت المترفين. لم يكن الأجر مجزياً، ولكنه كان كافياً لتأمين جزء يسير من احتياجات أسرتها.

في هذه الوظيفة، واجهت تحديات جديدة. عملها لم يكن سهلاً، لكنه كان يمنحها شعوراً بالإنجاز. كانت تتحرك بسرعة ودقة، وكأنها تحاول أن تثبت لنفسها وللعالم أنها قادرة على الصمود في وجه أي عاصفة.

كانت تلك السيدة مثالاً حياً للجمال الطاغي والأنوثة التي تجذب الأنظار. بشرتها السمراء الخفيفة التي تُشبه دفء الرمال تحت أشعة شمس معتدلة، وعيناها الخضراوان اللتان تتحدثان بصمت عن قصص طويلة من المعاناة والأمل. أما صوتها، فكان ناعماً وموسيقياً، يحمل دفء الأمومة وقوة المرأة التي لم تعرف الراحة يوماً.

رغم ظروفها الصعبة، لم تفقد يوماً قدرتها على الإبهار. كانت تملك ذلك النوع من الحضور الذي يجعل من يقابلها يشعر بأنها قادمة من عالم آخر، عالم خالٍ من الهموم، رغم أنها تحمل هموماً تفوق التصور.

كان لقاؤنا الأول معها في مدينة سلايديل بولاية لويزيانا عام 2012. جلسنا في دائرة صغيرة جمعت بين خليط من الثقافات: صديق فلسطيني يحمل معه حنيناً للوطن، أمريكي من كولورادو يعيش حياة مرفّهة، وفتاة كندية شابة مليئة بالطموحات. تبادلنا الأحاديث، وامتزجت الضحكات بذكريات تحمل في طياتها الحزن والفرح.

أضاف صديقي الفلسطيني نكهة خاصة إلى الحديث، بإسقاطاته الذكية حول الفجوة بين حياة العرب في أوطانهم وحياة المغتربين. قال مازحاً إننا، نحن العرب، رغم الحاجة والفقر، ما زلنا نعيش على أطلال الماضي المجيد. تحدث عن الروابط الأسرية التي نفتقدها في الغربة، وعن الدفء الذي لا تعوّضه الدولارات ولا المنازل الفاخرة.

حديثه كان تذكيراً صارخاً بأنَّ الغربة ليست مجرد مكان بعيد عن الوطن، بل هي حالة شعورية تعني فقدان الروابط التي تجعل الحياة ذات معنى. مهما كانت المغريات التي تقدمها الغربة من فرص عمل ودخل مرتفع، تبقى الأسرة والأصدقاء، وتلك "اللمّة" البسيطة التي تجمع القلوب، أغلى ما يمكن للإنسان أن يملكه.

تلك السيدة كانت تجسيداً حياً لهذه الحقيقة. برغم كل ما واجهته، ظلت قوية، متمسكة بروحها، ومحافظة على دفء عائلتها الصغيرة. كانت تحاول أن تصنع من المستحيل حياة، أن تضيف إلى أيامها القاسية بريقاً من الجمال والأمل.

هذه السيدة لم تكن مجرد امرأة جميلة. كانت رمزاً للمعاناة الممزوجة بالإصرار، والجمال الذي لم ينطفئ رغم تقلبات الزمن. في كل خطوة من حياتها، كانت تعلّمنا أن القوة الحقيقية ليست في العضلات، بل في القلب الذي يرفض أن ينكسر.

قصتها هي تذكير بأن السعادة ليست فيما نملكه من أشياء مادية، بل في الأشخاص الذين نحبّهم، والمكان الذي نشعر فيه بالانتماء. إنها حكاية عن الجمال الحقيقي، جمال الروح التي تواجه الحياة بابتسامة، مهما كانت قسوتها.