عن الكراهية والاحترام.... والتضليل
من يتأمل المشهد الإعلامي العربي يخيل إليه، بسبب الهجوم الكاسح الذي يتسم معظمه بقدر كبير من اللاعقلانية بل الغوغائية على الولايات المتحدة، أن القسم الأكبر منه يصدر عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي!! وقد يكون الأمر مفهوما - وإن بقي غير مبرر - على المستوى السياسي المباشر لكنه على المستويين الثقافي والمعرفي يستحق التوقف الطويل. فتصوير الولايات المتحدة كما لو كانت " الشيطان " يخرجها من السياق الطبيعي كظاهرة إنسانية فيها الخير والشر وتلك أخطر نتائج النظر للأمم من خلال صورة نمطية، وهذا الموقف هو الوجه الآخر للخطاب الإعلامي الغربي الذي يجعل كل ما هو عربي ومسلم " الشيطان ". ولنحاول تفكيك البنية الكامنة خلف هذا الخطاب من خلال تأمل المشاهد التالية.
الإنسان لا الأيدلوجيا
المشهد الأول مشهد عربي مهيب، السيد حسن نصر الله أمين عام حزب الله اللبناني يقف في استقبال الأسرى الذين أطلق سراحهم قبل أسابيع في الصفقة التي عقدها الحزب مع إسرائيل، وفي الاحتفال قال نصر الله:
" بالنسبة للعدو، هذا عدو بيننا وبينه حرب طاحنة، ونقر بوحشيته وهمجيته ولكن، حتى الإسلام يدعونا إلى أن نعترف بإيجابية عندما يكون لدى هذا العدو إيجابية. أيا يكن السبب لدى الصهاينة الذي يدعوهم إلى الاهتمام بأسراهم أو بموتاهم أو بأجساد موتاهم فهذا أمر يجب أن يحترم. نحن العدو اللدود لإسرائيل. أنا أقف اليوم وأحترم هذا العدو الذي يهتم بأسراه وبأجساد جنوده، ويعمل من أجلهم في الليل والنهار. بالنسبة إلينا هذه قيمنا ولكن للأسف الشديد عندما تحصل عمليات تبادل يكون لدينا واحد واثنان وثلاثة والإسرائيلي لديه أعداد كبيرة، هذا ليس ناشئا من الخلل في القيم بل ناشئ من الخلل في موازين القوى".
وتعكس كلمات نصر الله نظرة طالما نادت بها أصوات قليلة من المثقفين العرب بينهم كاتب هذه السطور حتى جاءهم المدد من حسن نصر الله.!! فلطالما دعونا المثقفين العرب إلى أن يعدلوا حتى مع الأعداء لأنه كما قال القرآن الكريم: " هو أقرب للتقوى " ( سورة المائدة 8 )، ونزع الأعداء من سياقهم الإنساني واعتبارهم شياطين له تأثير مدمر على وعينا نحن أولا قبل أن يكون له تأثير أكثر تدميرا على العلاقة مع الآخر، وفي تجربة من هزمونا الكثير لنتعلمه إن كنا جادين في العمل لترك مقعد المهزومين. وما قاله حسن نصر الله عن إسرائيل ينطبق بالطبع على الولايات المتحدة، فما الصدق أو الموضوعية في خطاب سياسي أو ثقافي يلصق بها كل نقيصة ومن على ساحة السياسة في العالم العربي يستطيع أن يدعي أنه أكثر مبدئية في موقفه من الكيان الصهيوني منه، وهو موقف لم يمنعه من الوقوف احتراما لأعدى أعدائه؟.
الحوار سرا والعداء علنا
المشهد الثاني مشهد عربي أيضا لكنه ذو مذاق مختلف تظهر فيه حقيقة موقف شريحة مهمة ممن رفعوا لفترة راية العداء المطلق للولايات المتحدة كما تطفو قمة جبل الجليد بينما هو مختف تحت الماء، ففي مؤتمر في بيروت نظمه حزب البعث العربي الاشتراكي بمناسبة ذكرى تأسيس الحزب وقف الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في الأسبوع الأول من إبريل عام 1980 ليقول [ تقرير لرويترز في 7 / 4 / 1980 ] " إننا سنقاتل القوة الأمريكية في كل مكان "، واتهم عرفات الولايات المتحدة بتحريك أساطيلها في بحر العرب والخليج والبحر المتوسط بحجة أن الرئيس كارتر يريد إنقاذ المنطقة.. لكننا نقول - والكلام لعرفات: " إننا لن نسمح أن تطأ أرض العروبة هذه القوة الأمريكية.. وسنقاتلها في كل مكان.... نحن مشتاقون لمحاربة المارينز، أسلحتنا مستعدة في كل مكان وزمان "
وفي الحقيقة لم يكن هذا موقف عرفات الحقيقي من الولايات المتحدة.. لقد كان حريصاً على إقناعها بقبول الحوار مع المنظمة، وكان يجري اتصالات معها وبدأت هذه الاتصالات عام 1974 عندما كان كيسنجر وزيراً للخارجية. وفي عام 1976 كانت هناك صلات قوية بين السفارة الأمريكية في بيروت وبين ياسر عرفات وكان بين الطرفين اتفاقات أمنية، بل إن كيسنجر بعث رسالة شكر إلى منظمة التحرير لما بذلته من جهد في رعاية الأمريكيين في لبنان ومساعدتها في إجلاء من شاء منهم مغادرة لبنان واعترفت الولايات المتحدة رسمياً في 23 / 7 / 1976 بهذه الاتصالات.
ومن الشخصيات الأمريكية التي لعبت دوراً في هذه الاتصالات: كريس فيك مساعد كيسنجر في وزارة الخارجية، غريهان بيزمان المسؤول عن قسم الشرق الأوسط في مجلس الشيوخ الأمريكي عام 1979، بول فيندلي عضو مجلس النواب الأمريكي الذي حمل رسالة من كارتر إلى عرفات في دمشق 1978، ميلتون وولف السفير الأمريكي في النمسا 1979 وقد اجتمع مع عصام الصرطاوي مستشار ياسر عرفات، والمدعي العام السابق للولايات المتحدة رامزي كلارك 1979، والممثل الأمريكي الدائم في الأمم المتحدة أندرو يونغ، ورئيس اللجنة الفرعية للشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي جورج ماك جافرن 1975. وفي هذه اللقاءات لم يكن عرفات يقول لهم: " نحن مشتاقون لمحاربة المارينز.. أسلحتنا مستعدة في كل مكان وزمان "، وإنما كان يتحدث عن وجوب نبذ العنف، ويرفع يده بغصن الزيتون، وينادي بالاعتدال، وما ترك سبيلاً إلا وسلكه من أجل أن تعترف الولايات المتحدة بمنظمة التحرير.
تلاميذ بول لاينبارغر
المشهد الثالث يقدم تفسيرا للظاهرة لا يستطيع أحد أن يدعي أنه " التفسير الصحيح " لكنه يتأسس على معلومات لا يوجد ما ينفيها وهي صادرة عن واحد ممن لعبوا أخطر الأدوار في خدمة المصالح الأمريكية في مصر، إنه مايلز كوبلاند صاحب الكتاب الأكثر شهرة " لعبة الأمم "، وهو في كتاب ترجم للعربية قبل سنوات هو " اللاعب واللعبة " ( 1 ) يقدم رواية للظرف السياسي الذي ولد فيه خطاب العداء الكاسح للولايات المتحدة، وفيها يقول حرفيا: " هل تعلمون من كان يعد الكثير من تصريحات عبد الناصر وسيل الدعاية المعادية للولايات المتحدة المتدفق من إذاعة القاهرة - أقوى وسائل الدعاية في الشرق الأوسط - التي أزعجت الديبلوماسيين المحترفين في وزارة خارجيتنا؟ طبعا أنتم لا تعرفون أننا كنا نحن نعدها. ذلك لأننا كنا ندرك مثلنا مثل عبد الناصر نفسه أن قبضة العهد الجديد على البلاد تتوقف على قدرته في الاستمرار بالعداء لأمريكا بشكل مقنع وأن ليس في مقدور عبد الناصر المخاطرة بمجرد إبداء أي عقلانية في مواقفه حيال سياساتنا المختلفة في الشرق الأوسط. وحتى لو استطعنا تنويم عبد الناصر مغنطيسيا بحيث يطيع أوامر واشنطن دون تردد لأحجمنا عن حمله على التصرف تصرفا نعلم مسبقا بأنه انتحاري. لذلك ساعدناه في دعايته المعادية لأمريكا ومن ناحية أخرى بذلنا مجهودا كبيرا لجعل تلك الدعاية تأتي بنتائج عكسية إذ ضمناها الكثير من السخافات الواضحة مع بقائنا بكامل السيطرة على إنتاجها. وذهبنا في إتقاننا لهذه العمليات إلى استقدام بول لاينبارغر، ولعله أقوى الدعائيين السود في التاريخ، إلى مصر لتدريب الفريق المصري الأمريكي المسؤول عن إنتاج الدعايات المذكورة "، فهل ما تطفح به وسائل الإعلام العربية من خطاب عداء كاسح للولايات المتحدة الأمريكية تعبير عن عداء حقيقي أم هو من إبداع تلاميذ بول لاينبارغر؟
من كوبلاند إلى نجيب
وننتقل من مايلز كوبلاند إلى الرئيس المصري محمد نجيب الذي كُشف مؤخرا ( 2 ) عن رسالة كتبها عام 1973 ولم تنشر آنذاك، الرسالة موجهة للصحافي الراحل إحسان عبد القدوس رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأخبار - آنذاك - ردا على مقال كتبه الصحافي محمد حسنين هيكل في جريدة الأهرام. وفي الرسالة يقول نجيب إن هيكل هاجمه بسبب حوار أجرته مجلة الحوادث مع الرئيس محمد نجيب وفي رسالته لإحسان يقول: " قد كتبت عن الأستاذ محمد حسنين هيكل أن له صلة بالأمريكان " وهو يزيد الأمر توضيحا عندما يتحدث عن تقرير رسمي عرض عليه في هذا الشأن ويعقب على كلام هيكل قائلا: " محاولة طمس فكرة وجود تقرير المخابرات المشار إليه عن طريق القول بأن عرضه علي لا يستقيم مع عرضه على جمال عبد الناصر الذي كان هيكل قريبا منه "، ويشير بعد ذلك إلى تقرير مخابراتي آخر وضعه حسن التهامي أحد ضباط يوليو قائلا: " ألم يعلم - يقصد حسنين هيكل - بأنه قد كُتب بعد نشر كتاب لعميل المخابرات الأمريكية مايلز كوبلاند يروي فيه قصة الثلاثة ملايين دولار التي ترتبط بأسماء معروفة محددة، وهل يعتقد الأستاذ هيكل أن هذا التقرير الذي كتبه مرؤوس يمكن أن يعتبر مستندا تاريخيا وهو بمثابة محاولة للتبرئة وصرف الأنظار سجلها الذين ارتبطت أسماؤهم بما كتبه عميل المخابرات المركزية الأمريكية؟ ".
هناك إذن مصداقية لما رواه كوبلاند في كتابه الأول " لعبة الأمم " أدت إلى حروب إعلامية وإصدار تقرير - وربما أكثر - لصرف الأنظار كما يبدو من سطور رسالة رئيس مصري سابق، وهو ما يجعل لما أورده كوبلاند في كتابه الجديد أهمية كبيرة ولا بأس هنا من الإشارة إلى أن هيكل رد على كوبلاند نافيا فكتب كوبلاند متحديا هيكل بأن ما نشره موثق. وكوبلاند في النهاية ليس ملاكا ولا ينبغي أخذ روايته على علاتها، لكن خطاب العداء للولايات المتحدة ولد فعليا في مصر في هذه الفترة وليس ثمة تفسير منطقي للظاهرة التي ما زالت تتزايد بوتيرة لا صلة لها لا بمجريات الأحداث في المنطقة ولا بالموقف الأمريكي من إسرائيل، فالعلاقات العربية الأمريكية لا يتكون جدول أعمالها من بند واحد ولا يستطيع أي تيار سياسي أن يدعي أن القضية الفلسطينية همه الوحيد، بل إن القوميين العرب وهم الأعلى صوتا في رفع شعار العداء المطلق للولايات المتحدة لم يجدوا حرجا في أن يعلنوا قبل سقوط النظام العراقي أن القضية الفلسطينية تراجعت في ترتيب أولوياتهم لتحل محلها " القضية العراقية "، ما قد يعني أن الموقف الأمريكي المنحاز لإسرائيل مجرد " كسارة جليد " تستخدم بدهاء شديد.
وحتى إذا سلمنا جدلا بأن القضية الفلسطينية تمثل البوصلة التي تحدد علاقاتنا الدولية، ففي حقيقة الأمر يتحمل الغرب كله بشقيه الرأسمالي - الأوروبي والأمريكي معا - والشيوعي ( المنهار ) المسئولية عن نشأة إسرائيل، بل إن الحدث الأكثر مفصلية في تاريخ إسرائيل ونقصد به تحولها لقوة نووية تتحمل المسئولية عنه فرنسا لا الولايات المتحدة!!.
ورغم هذا فإن كثيرا من السياسيين العرب في محاولتهم منع سقوط النظام العراقي لم يجدوا غضاضة في أن يتناسوا هذا الدور الفرنسي في دعم إسرائيل وأن يعتبروا التقاء موقفهم مع مصالحها في هذه القضية أمرا مقبولا بينما يعتبرون الالتقاء مع المصالح الأمريكية ولو جزئيا خيانة عظمى.
ثنائية الكراهية والاحترام
للمثقف الفلسطيني المعروف عزمي بشارة عبارة كانت أحد مفاتيح اهتمامي بمحاولة تفكيك هذه الظاهرة ففي دراسته: " الدين والسياسة في الشرق الأوسط " ( 3 ) يسجل الملاحظة التالية: " ويلاحظ أيضا أن جزءا كبيرا من إصدارات الحركة الإسلامية تكن لإسرائيل خليطا من الكراهية والاحترام باعتبارها دولة يهودية دينية "، ومن القضايا المسلم بصحتها أن الأمم وكذلك الجماعات تميل فطريا إلى من يشبهها وهو مفتاح من أهم مفاتيح نجاح الصهاينة في ترويج صورة دولتهم غربيا باعتبار أنها دولة ديموقراطية قامت على تراث يهودي مسيحي مشترك، والسؤال الذي يفرض نفسه هو: إذا افترضنا جدلا أن بيننا وبين الولايات المتحدة عداء، فهل يمنعنا هذا العداء من أن نحترمها؟
إن كفار قريش عندما كانوا يفخرون على المسلمين بانتصار الفرس على الروم كانوا يدكون هذه الحقيقة فهم أشبه بالفرس والمسلمون أشبه بالروم وعندما نزل القرآن يبشر في مفتتح سورة الروم بأنهم سينتصرون: " الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون " ( سورة الروم 1 - 4 ) لم يكن ذلك نتيجة وجود علاقة تحالف من أي نوع أو بأي درجة بين المسلمين والروم، وما زلت منذ أن قرأت هذه السورة للمرة الأولى أتوقف أمام قوله تعالى " ويومئذ يفرح المؤمنون "!!.
ومن المضحكات المبكيات أن الأمة العربية التي يشكل الدين أهم مكونات ثقافتها وتشكل الحرية أهم ثوابت ثقافتها الدينية استدرجت كثير من دولها كما تشير الوقائع - ولعقود متوالية - إلى التحالف مع الاتحاد السوفيتي الذي كان في حقيقته بناءً دعامتاه الإلحاد والاستبداد، واستدرجت من ناحية أخرى لمعاداة الولايات المتحدة التي تعد من أكثر الدول الغربية تصالحا مع الدين في الحياة السياسية والحياة العامة في عمومها، مع إقراري بأن التيارات الدينية الأكثر حضورا على الساحة الأمريكية معادية لحضارتنا وثقافتنا، لكنني أعتقد أن الجمع بين الكراهية والاحترام ممكن بل قد يكون أحيانا لازما، أما عندما تكون الكراهية ثمرة التضليل فإن الأمر يصبح مرضا ثقافيا خطيرا يحتاج معالجة حاسمة.
التعليقات