ابداعيةالفكر، في استيعاب مكونات المجتمع الواحد
من البديهي جداً أن يتنوع الفكر في المجتمع الواحد بتنوع إثنياته، وتنوع مرجعياته الفكرية، وإن اختلفت نسبها العددية. وعلى هذا الأساس فلا يمكن لأي حزب أو حركة سياسية أو فصيل، أن لايمتلك مرجعيات فكرية، يستنبط منها برنامجه السياسي والوطني. لذلك فهو بالضرورة يكون ملزماً ان يضمّن هذه البرامج، مصلحة النسيج المتنوع على أساس الحقوق والواجبات، ضمن ما يستنبطه من فكره المعتمد لديه.
فلا يمكن له أن يناضل من أجل إحقاق حقوقه منفصلاً عن حقوق الآخرين، الشركاء له بالوطن، سواء كان هذا الفكر اسلامياً، أو قومياً أو يسارياً. باعتبار أن الجميع يهدف للدفاع عن انسانية الأنسان كما مر بنا. كما لايمكن له أن يناضل على مساحة من الأرض العراقية، وبامتدادات خارج الوطن، دون الألتفات للوطن بكليته. ولايمكن له أن يناضل من أجل كسب حقوق طائفته أو قوميته، وإن كانت الأغلبية، لكن ليس على حساب الأقلية.
إذن لابد له من مراعات حقوق الجميع من منظور وطني متجانس، وفق أنساغ متجانسة. وعلى ضوءه أن يكون ملزماً بانطلاقه عراقياً، للأنفتاح اقليمياً وعالمياً. مما يحدد حركته الوطنية وبنيانه المبدئي بحركة المجتمع الواحد دون أن ينفصل عن الجميع، إلا في مفردات الفكر العالمية. وبهذا يكون هو الجزء، من الكل العراقي في حدود الوطن العراقي. وهو الكل العراقي، الذي يتبنى المصالح الوطنية في تحالفاته الخارجية مع الكل الأقليمي، والكل العالمي، الذي يتلائم معه فكرياً. فإن أي نظام إجتماعي لا يمارس دوره في فراغ، وإنما يتجسد في كائنات بشرية، وعلاقات قائمة بينهم. وهو من هذه الناحية، تتحدد درجة نجاحه وقدرته على تعبئة إمكانات المجتمع، وتفجير الطاقات الصالحة في أفراده. تبعاً لمدى انسجامه إيجاباً أو سلباً، مع التركيب النفسي، والتاريخي لهؤلاء الأفراد.(1)
فالأسلاميون يعتمدون على القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، في أخذ نظرياتهم في العبادة. التي يطلقون عليها فقهياً بـ (العبادات)، والتي يأخذون منها غذائهم الروحي الذي يوفر لديهم روادع النهي عن المحرمات في القول والعمل. من قبيل حفظ العهد، وحب الوطن، والتكافل، والتكامل الأجتماعي في العيش تحت سماء الوطن الواحد. واحترام الأديان والقوميات الذي يقره الأسلام . ويأخذون نظرياتهم، مما يطلق عليه فقهياً بـ (المعاملات) وذلك في العمل والعلوم الأجتماعية، والأدارية ، والنفسية، والتربوية، وإدارة الدولة والمجتمع. وحقوق الأنسان وواجباته. عن طريق الأجتهاد الذي يستنبطون من خلاله نظرياتهم ولكن على ضوء الةاقع المعاش . فالعبادات والمعاملات يكمل بعضها البعض في صياغة أديبياتهم، وبرامجهم السياسية والأصلاحية. وبرامجهم العملية في الواقع الذي يكون قادراً على تمييز الأسلام الحقيقي من المزيف.
فهم يعتبرون أن السبب الكامن وراء أخذهم الفكر من الكتاب والسنة باعتبار:
ـ لان القرآن هو الدليل الخالد على النبوه.
ـ لان القرآن هو الدستور الثابت من السماء للامة الاسلامية.
ـ لان القرآن هو كتاب الهداية البشرية.
ـ لان القرآن انشأ الامة.
ـ لان القرآن اعطا للامة العقيدة.
ـ لان القرآن انشأ الامة على مكارم الاخلاق.
ـ لان القرآن بنى للامة اعظم حضارة عرفها الانسان الى يومنا هذا. (2)
فالسيد الشهيد المفكر محمد باقر الصدر،لا يقصد بذلك أن النظام الإجتماعي والاطار الحضاري للمجتمع، يجب أن يجسد التركيب النفسي، والتاريخي، لأفراد المجتمع. ويحوّل نفس ما لديهم من أفكار، ومشاعر إلى صيغ منظّمة. فان هذا لا يمكن أن يكون صحيحاً، بالنسبة الى مجتمعات العالم الاسلامي، التي تشكو من أعراض التخلف، والتمزق، والضياع، وتعاني من ألوان الضعف النفسي. لأن تجسيد هذا الواقع النفسي المهزوم، ليس إلا تكريساً له، واستمراراً في طريق الضياع والتبعية. وإنما الذي يقصده أن أي بناء حضاري جديد لمجتمعات التخلف هذه، إذا كان يستهدف وضع أطر سليمة لتنمية الأمة، وتعبئة طاقاتها، وتحريك كل إمكاناتها للمعركة ضد التخلف. فلا بد لهذا البناء عند اختيار الإطار السليم، أن يدخل في الحساب، مشاعر الامة ونفسيتها، وتركيبها العقائدي، والتاريخي. وذلك لأن حاجة التنمية الحضارية إلى منهج إجتماعي، واطار سياسي، ليست مجرد حاجة الى اطار، من أطر التنظيم الاجتماعي. ولا تكفي لسلامة البناء أن يدرس الاطار، ويختار بصورة تجريدية ومنفصلة عن الواقع. بل لا يمكن لعملية البناء أن تحقق هدفها في تطوير الأمة، واستنفار كل قواها ضد التخلف، إلا إذا اكتسبت إطاراً يستطيع أن يدمج الأمة ضمنه حقاً. وقامت على أساس يتفاعل معها. فحركة الأمة كلها، شرط أساسي لإنجاح أي عملية بناء حضاري جديد. وأي معركة شاملة ضد التخلف، لأن حركتها تعبير عن نموها، وإرادتها، وانطلاق مواهبها الداخلية. وحيث لا تنمو الامة لا يمكن لأي منهج، أو صيغ محنطة، أن تغيّرمن الواقع شيئاَ.
(إنّ الله لا يُغيّر ما بقومٍ حتى يُغيروا ما بأنفسهم) (سورة آل عمران/ آية 110.). (3)
ففي الوقت الذي لانرى فيه من ينّظر، ويبدع للمستقبل، فيما يراه من الواقع المعاش بعد السقوط، غير الغمز واللمز بالدين، أو توظيف ترهات الجهلة من المتأسلمين، الخارجين من تحت ظلم نظامٍ كاد أن يقضي على العقول، بعد مصادرة الحريات، للأسف يوظفون هذا لضرب الدين قبل أن تكتمل أسس العملية الديمقراطية التي يسعى اليها الجميع. نراهم أيضاً يغفلون الجانب المشع من حقيقة الأسلام المحمدي الأصيل، وفيه ما يجد المثقف بغيته بالديمقراطية التي وضع أسسها هذا الدين العظيم. فقد بدأ الاسلام في أول أمره نظاما ديمقراطيا. ولكن الديمقراطية اختفت منه بعد ما رفع معاوية المصاحف وقال للمسلمين: تعالوا نحتكم الى كتاب الله. وكانت نتيجة الاحتكام الى كتاب الله ان تولى يزيد امر المسلمين وقال:
لعبت هاشم بالملك فـــلا خبر جاء ولا وحي نزل (4 )
نعم لقد عاش المسلمون الأوائل في سعة من الحرية والديمقراطية التي استوعبت حتى الذين بقوا على دينهم وعقائدهم دون أن يلتحقوا بالأسلام. ولم يجبروا على شئ رفضوه. فكان الأمام علي عليه السلام آخر حاكم في تاريخ الاسلام انثالت العامة على بيعته طوعا واختياراً. وقد أشار هو الى ذلك حيث قال: "ان العامة لم تبايعني لسلطان غالب، ولا لعرض حاضر". اما الخاصة فقد بايعه معظمهم. وحين رفض بعضهم بيعته تركهم احرارا، فلم يجبر أحداً منهم عليها، وانما خلى بينهم وبين ما أرادوا من الاعتزال، وقبل منهم ما قدموا من عذر، وقام دونهم يمنع الثائرين من ان يصلوا اليهم.(5)
فقد عاش عليه السلام وهو حامي لمعارضيه. لم يمنع عليهم حقوقهم بالعطاء، ولم يفرق بينهم وبين المسلمين بالحقوق، وكان غالباً ما يستعمل معهم الحوار للوصول واياهم الى ماهو خير الأمة والمجتمع. ولو درسنا معاملة الامام علي للخوارج الذين كفّروه وشتموه في وجهه، وتآمروا عليه في عاصمته لرأينا فيها عجبا. فهو قد كان يتحمل منهم ذلك صابرا. فكان يعطيهم عطاءهم المفروض لهم، ويجادلهم جدالاً طويلاً، لعلهم يتدارسون أمرهم، ويثوبون الى رشدهم. ولم يقاتل منهم إلا تلك الجماعة التي خرجت عليه بالسيف، وقطعت طريق السابلة، واذاعت الذعر في الناس. وقتلت عبد الله بن خباب مع نسوة كن معه. فارسل اليهم الامام رسولا يسألهم عن هذا الفساد فقتلوا الرسول ايضاً. ولم يبدأ بقتالهم إلا بعد ان استنفذ جهده في محاججتهم وجدالهم، بالكتابة مرة وبالمشافهة أخرى.(6) فكانت حرية الرأي مصانة في عهده عليه السلام بالقانون الذي يحكم الرعية فيه، والتعبير عن الرأي لم يكن لديه جرم، بقدر ما هو خوفه على الأمن والأمان للرعية. فهو لا يحاسب أحداً على رأي فاه به، ولا يعاقبه على تهمة أتهم بها. انما هو يعاقب الرعية حين يظهرون له الخلاف أو يقطعون الطريق أو يقلقون الامن. وأظن ان هذا هو ما تسير عليه الديمقراطية في يومنا هذا.( 7 )
وعلى ضوء هذا تتحرك القوى الأسلامية الخيرة والمعتدلة بفهمها للأسلام على اساس، أن جعل الإيمان بالله الخصيصة الثالثة للامة الاسلامية بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تأكيداً على أن المعنى الحقيقي للإيمان ليس هو العقيدة المحنّطة في القلب، بل الشعلة التي تتّقد وتشع بضوئها على الآخرين. والأمة الإسلامية مسؤولة خارجياً عن العالم كله بحكم كونها أمة وسطاً وشهيدة عليه.
(وكذلكَ جعلناكُم أمّةً وسطاً لتكونوا شُهداءَ على النّاس...)( سورة البقرة/ 143 ).(8)
الهوامش
(1ـ 3 ـ 8) تركيب الفرد المسلم في واقعنا المعاصر . مقال للشهيد المفكر الشهيد محمد باقر الصدر... مجلة الحوار الفكري السياسي/العدد33/1986م. موقع البلاغ، فكر اسلامي الصفحة الثانية
( 2 )المنهجية في علوم القرآن. للشيخ عبد الحليم الزهيري. صحيفة البيان العراقية ـ العدد (140 ) السبت 19 رجب 1425 هـ - 4 ايلول 2004م
(4 ـ 5 ـ 6 ـ 7) مهزلة العقل البشري للدكتور علي الوردي. موقع البلاع . فكر سياسي الصفحة الأولى.
التعليقات