من البديهي القول بأن مقاومة الاحتلال حق مكفول للشعوب التي تتعرض له. و هي مطلب وطني من دون شك. و لكن ، هل يمكن القول بأن ما يجري من أعمال عنف في العراق يمكن أن يندرج تحت يافطة (( مقاومة وطنية مشروعة ))؟ و إذا ما كانت هنالك مقاومة وطنية ، بالفعل ، فلماذا تفتقر على نحو واضح إلى الإجماع الوطني عليها من مختلف فئات الشعب العراقي؟ و لماذا لا تسفر عن وجهها المخفي؟ و ما سبب خشيتها من طرح برنامجها السياسي – إن كان لها أي برنامج على الإطلاق – رغم مرور أكثر من عام على اندلاع أعمال العنف التي تؤججها؟
في الواقع ، إن الوضع في العراق اكثر تعقيدا من مجرد محاولة تبسيطه أو اختزاله في توصيفات سطحية يمكن أن تنتج خلطا بالغ الضرر. لذلك ، ينبغي الحذر من المظهر الخادع للدوغمائية المطمئنة للمتورطين في أعمال العنف و المتواطئين معهم. كما ينبغي الحذر من المظهر الخادع ، في نفس الوقت ، للتطمينات المفرطة بالتفاؤل بقرب نجاح التجربة الديموقراطية من دون تهيئة الأسباب المادية والمعنوية على نحو مشجع.
إذ أفصح واقع ما بعد التاسع من نيسان للعام 2003 عن وجود ثلاث كتل ديموغرافية حقيقية ينقسم إليها المجتمع العراقي بالأساس ، وهي: الشيعة العرب ، و الأكراد ، و السنة العرب. و لكل فئة من هذه الفئات توجهاتها التي قد لا تراعي بالضرورة توجهات الطرف الآخر. فالأكراد ، مثلا ، يؤكدون ، بقلق بالغ ، على أهمية الحفاظ على ما اكتسبوه حتى الآن. و هم مع المشروع السياسي الرسمي طالما يؤكد على عراق فيدرالي يضمن لهم حقوقهم المكتسبة في إطار التعددية السياسية الموعودة.
أما الشيعة ، فيرون أن فرصتهم قد حانت أو تكاد لأخذ حقوقهم السياسية المهضومة منذ زمن طويل. و هم مع أي مسار سياسي يمكن أن يؤدي إلى إجراء عملية الانتخابات لأن لهم فيها حصة الأسد بحكم كونهم أغلبية ديموغرافية لا يمكن تجاوزها.
في حين يبقى السنة العرب هم الطرف الأضعف في معادلة ميزان القوى السياسية. لذلك ، يشعرون بإحباط و يأس كبيرين من النتائج المتوقعة من وراء أي انتخابات مقبلة غير مفبركة مثلما هو معتاد في الأزمان الغابرة. و هذا الإحباط يجعل منهم هدفا سهلا تتلاعب به قوى إقليمية ودولية ليس من مصلحتها استقرار الأوضاع و استتباب الأمن في العراق للفترة الراهنة ، على الأقل. لذلك، وفرت هذه الطائفة الساخطة ملجأ طبيعيا للعصابات المنظمة و للمتطرفين الإسلاميين ، و خصوصا التكفيريين من الطائفة الوهابية و نظرائهم من جماعة الأخوان المسلمين.
أما الصدريون الشيعة الذين رقصت ، مؤخرا ، أقدامهم على قرع طبول العنف الوهابي المتشدد، فوجدوا أن أغنية العنف هذه يمكن لها أن تقضي على مستقبلهم السياسي ، ما لم تحض بمباركة المرجعية الشيعية ، خصوصا وانهم تيار يتخذ من الدين عباءة ليغطوا الفقر الفاضح في وعيهم السياسي. و لقد راهن البعض ، متوهما ، أن بإمكان تيار الصدر إضفاء بعد وطني شرعي على ما يسمى بالمقاومة (( السنية )) ، بحكم انتماءه إلى الغالبية الديموغرافية. و لكن هذه المراهنة قد فشلت هي الأخرى فشلا ذريعا ، لأنه قد تبين للجميع أن تيار الصدر نفسه هامشي ، هو الآخر ، إذا ما أخذنا في الاعتبار الحركة العامة للقوى والتيارات الفاعلة في البيت الشيعي.
و لهذا السبب ، بقيت حركة ما يسمى بالمقاومة ( السنية العربية ) لوحدها في الساحة ومعزولة وطنيا. حيث تحاول يائسة أن تخلط الأوراق ، مرة تلو الأخرى ، لإشاعة الاضطراب من أجل تفويت الفرصة على أية تسوية سياسية تراها غير مقبولة من وجهة نظرها. و من هذا الوضع الشائك يتبين حجم المشكلة التي يعاني منها العراق الممزق بين هذه الكتل الثلاث. إذ يبدو إن الدولة العراقية لم تنجح تماما في بناء شعب عراقي موحد منذ نشوئها حتى الآن. بل يمكننا المضي بعيدا ، لنقول: انه ما من وجود لشيء اسمه الشعب العراقي إلا على ورق الجرائد و الكتيبات التي تتحدث عن مخلوق نسمع عنه كثيرا و لا نراه على أرض الواقع.
فالكتل الرئيسية الثلاث تعاني من صعوبات حقيقية في الاندماج لبناء أمة موعودة. أما تجاورها الجغرافي في رقعة بلد واحد ، فيبدو و كأنه لم يسهم كثيرا في حل هذه المشكلة. و ذلك لأسباب سياسية في المقام الأول ، ونتيجة لاختلال ميزان القوى السياسية ، دائما ، لصالح أقلية واحدة على حساب الشريكين الآخرين معها في المواطنة كما يفترض.
و أبرز دليل على فداحة هذا الانقسام والتمزق داخل المجتمع العراقي هو عدم نجاح أي تيار أو حزب سياسي في اجتذاب الكتل الرئيسية الثلاث معا ، منذ سقوط نظام صدام البائد إلى يوم الناس هذا. و أي نجاح في هذا الصدد ، إنما هو نجاح محدود لا يمكن الاعتداد به. و ينبغي أن لا يفهم من قولي هذا على انه دعوة مفتوحة لتقسيم العراق ، قدر ما هو رغبة صادقة لأعادة بناء الشعب العراقي و تشجيعه على الاندماج في إطار وطني واحد. كما لا يفوتني التنبيه إلى أن تيار العنف الأساسي في البيت السني نفسه ، لا يشكل ، هو الآخر ، إلا فئة هينة فيه ، ولكنها الأكثر صخبا و الأعلى ضجيجا بحكم إحجام الأغلبية من السنة العرب و ركونهم إلى الصمت السلبي ، في ظل غياب أية مرجعية وطنية جامعة يمكن أن تطمئن إليها هذه الطائفة الساخطة على ما يبدو.
و عليه ليس غريبا أن نجد الحس الوطني و قد تدهور إلى أدنى درجاته ، و إلى الحد الذي أمكن فيه أن نرى مدنا بأكملها أو تيارات نشطة و قد أبدت استعدادها المجاني لكي تهب ولائها إما إلى مجرمين دوليين أو لتنظيمات خارجية مثيرة للجدل ، كما فعلت الفلوجة ، مثلا ، عندما أمرت عليها جماعة ابي مصعب الزرقاوي ، أو كما فعل الصدر و اتباعه عندما تفاخروا بتبعيتهم لحزب الله وانهم سيكونون ذيوله في العراق.
و مما يزيد الطين بلة هو إن لكل من الشيعة العرب والأكراد أحزابهم وبرامجهم السياسية التي يدعمها تأريخ طويل في مقارعة السلطات الظالمة التي لم يشعروا ، يوما ، أنها كانت تمثلهم. في حين إن السنة العرب الذين لم تكن بهم حاجة إلى ذلك -لأنهم كانوا يشعرون ، على نحو ما ، بأنهم جزء من المؤسسة السياسية القائمة _ يفتقرون ، الآن ، إلى أي برنامج سياسي مقبول لديهم. و من هذا الافتقار تنشأ أكثر مخاوفهم على مستقبلهم السياسي.
و بانتظار أن يطمئن السنة العرب على مصيرهم السياسي ، لا بد من استعادة حسهم الوطني بالانتماء ، أولا ، إلى العراق ، كما على غيرهم. و ما لم يتحقق ذلك ، ستبقى الهواجس و المخاوف هي التي تعصب أعينهم و تمنعهم من التنكر لأعمال العنف التي هي إلى الجرائم غير المبررة اقرب منها إلى مجد (( المقاومة الوطنية )) التي يطبلون لها و يزمرون. و لا اعرف ما الذي سيفعله كل المنخرطين في أعمال العنف الجارية الآن ، لكي يتخلصوا مستقبلا من الشعور بالخجل و العار من الجرائم التي ارتكبوها بحق الوطن الذي أثخنوه بالجراح؟..

كاتب عراقي مقيم في عمان
E-mail: [email protected]