حتى لا تتجدد المآسي!

د. خالد الطراولي
مدير تحرير مجلة "مرايا" باريس

عندما نتصفح التاريخ الاستعماري للعالم الإسلامي عموما والعالم العربي خاصة في فترته الحديثة، تسترعي الانتباه حالة المواجهة والدفاع ومسارات التحرير والرفض التي رفعتها شعوب هذه البقاع تحت راية الإسلام غالبا إن لم يكن الوحيد. كانت ثقافة الإسلام الداعية إلى عدم الركون ورفض الاستعمار والشوق للحرية والانعتاق، دافعا أساسيا نحو الاستقلال وخروج المستعمر من الأراضي الإسلامية. كان حمل المواجهة، وثقل المسؤولية وأصحاب الصفوف الأولى المتمترسين في الخنادق والذين دفعوا ضريبة التحرير غاليا في أنفسهم وأهليهم، كان أغلبهم من هذه الفئة المشبعة بالثقافة الإسلامية والممتلئة قناعة بأنها تذود عن وطنها وفي سبيل دينها.
كانت الصفوة القائدة لهذه الملحمة تتقاسمها في بعضها توجه علماني صريح تميز بابتعاده النسبي عن المرجعية الإسلامية في تصوراته ورؤاه واقترابه من المشروع الغربي في ثقافته وبرامجه لتنمية بلدانه. وفي البعض الآخر نخبة ذات طرح إسلامي و مفحمة بمرجعية دينية وخطاب تقليدي يدعو إلى العودة إلى الأصول ويرنو إلى إعادة أمجاده ونهضة قومه عبر التمسك بهويته ومرجعيته الدينية.
كان المستعمر وهو يغادر الأراضي أمام حلين، أمام طالبين، أمام مشروعين، كان العلمانيون أقرب إلى مشروعه، أقرب إلى مصالحه، كان أصحاب التوجه الإسلامي يحملون مشروعا مناقضا، فيه الكثير من الإقصاء، كان الاستقلال يعني بالنسبة إليهم استقلالا كاملا في المبادئ والمصالح، فالضريبة المرتفعة التي دفعوها كانت باهضة الثمن وطالت أجيالا متعددة مما جعلهم مغالين في البعض من مطالبهم، كانت الواقعية والبراغماتية هشة في أطروحاتهم فرفضوا المقاسمة وخلطوا بين المبادئ والمصالح وكأنه لا يجمعهما سقف واحد.
كان المستعمر متلهفا على مصالحه في هذه الأوطان التي يغادرها عسكريا وسعى إلى من يضمنها له وهو خارج حدودها، كان الأقرب إليه في الظاهر أصحاب الطرح العلماني، فهم يحملون منطلقاته ودرسوا في دياره وأشبعوا بثقافته، كانت البرامج التنموية التي يحملونها لبلدانهم هي التي نهضت ببلدان المستعمر وهم بذلك يلتقون مع حكام الأمس. سلم المستعمر مقاليد الدولة الجديدة إلى هذا الفصيل وهو مطمئن على "إرثه" ورحلت جنوده ولم ترحل ثقافته وذهنيته، ولم ترحل مصالحه.

المواعيد الضائعة بين الشرق والغرب
لقد رأى المستعمر أن مصلحته تقتضي تسليم السلطة إلى عروش وكراسي تقترب من أفكاره وفلسفته، وظن أن هذا البعد كاف للاستقرار الأوضاع للاستثماراته ولمصالحه ونسي أبعادا أخرى أو تناساها وهي المحدد الحقيقي للاستقرار، نسي المستعمر ثقافة هذه الشعوب، نسي مطلبها للحرية المرتبط أساسا بمطلب الاستقلال، الذي ناضلت وكابدت من أجل الحصول عليه، نسي المستعمر أن هذه الشعوب لا تريد أن تخرج من ديكتاتورية خارجية إلى أخرى داخلية، نسي المستعمر أن حقوق الإنسان الذي ناضلت من أجلها هذه الشعوب لا تفرق بين مأكل ومشرب ومسكن، و بين صوت وقلم، بين مشروع نمو يحمي البطون، وبين مشروع تنموي يحمي الأصوات والأقلام!
كانت هذه اللحظة أول الأخطاء وأول المواعيد المخطئة بين الغرب والعالم الإسلامي. لم يراع المستعمر ثقافة هذه الأوطان وتقاليدها ودينها، ولم يدمج في معادلة الاختيار بين العلمانيين والإسلاميين هذا البعد الهام والمحدد، وأغمض عينه وتطلع لمن يخدم مصالحه كاملة في ظل استقرار أو شبه استقرار، ولو كان بالحديد والنار وكانت المأساة الأولى... انطلق الهشيم أولا داخل الديار فقد تمكّن الاستبداد من جديد واستخف القوم واستغفل العشيرة، أنظمة انهزمت في مشاريعها، لا أفلح منها من نادى بالشيوعية ولا باللبرالية ولا بالقومية ولا بالبعثية، وكان العبث أقرب من البعث، استفحل الغش والمحسوبية والفساد، واستتب الأمر للجهل والجور ودخلت بلداننا في نفق مظلم لا يعرف أوله ولا آخره، جهل عام وفقر أعم، وشهادات التخلف والوصاية والانحدار تتوالى من مراكز البحث العالمية وصناديقها وبنوكها، حتى أضحى العالم الإسلامي أتعس بقاع الأرض، خير لأهلها بطنها من ظهرها! وهو يطفح فوق خيرات وثروات جسام، تكفي بعض أراضيه لتغذية كل شعوبه وأن يكون مطمور العالم في جله، وتكفي بعض موارده لاستنهاض كل الأمة!
لقد ظن المستعمر القديم وممن أصبحوا من بلدان الصف الثاني اليوم، ومن عوضهم في الرئاسة والقطبية الحالية التي تنفرد بها الولايات المتحدة، أن مصالحهم سوف يستتب لها الأمر وأن الاستقرار في هذه الديار دائم وعام ولكن...11 سبتمبر الأليمة والارهابية مرت من هنا!
وفي ظل هذا الموت البطيء لهذه الشعوب وفي إطار من اللامبالاة الخارجية والداخلية، من أنظمة وراء الحدود ظنت أن مصالحها دائمة، وأنظمة داخلها ترث الحكم كما ترث أمتعتها، حتى اخترعت ما لم يخطر على مخيلة أي عالم في الفكر السياسي، فاختلقنا الجمهوريات الملكية! مصطلح يعجز لسان العرب أن يجد له تفسيرا ويشيب له رأس الخليل أو سيبويه في إعرابه أو صرفه!
لقد ولدت ثقافة الكبت والإحباط والجوع والظلم، ثقافة التطرف والغلو والصراع، ونشأت طرق وفرق وتنظيرات للقتل والإرهاب الذي لم يقف عند حدود بلاده وتطلع إلى ماوراءها ووجد الغرب بكل أطيافه أن هذا العداء يمكن أن يطأ أرضه ووقعت المأساة الثانية ووقع المحظور في 11 سبتمبر!
كانت هذه المأساة الأليمة وليدة المأساة الأولى وتعددت المآسي، كان إعطاء الحق لغير أهله وتسليم السلطة إلى غير أصحابها، وكان تجاوز ثقافة هذه الشعوب وعقلياتها ومرجعياتها وهوياتها طريقا للمأساة الثانية وهو لا يبررها. فهل يتواصل مسلسل المآسي والمواعيد الضائعة بين الشرق والغرب؟

الأبعاد المنسية للإصلاح والتصالح
عندما تطالع بكل أريحية وهدوء الدعوات المتتالية حول إصلاح المجتمعات العربية والإسلامية والمنبثقة أساسا في بدايتها من البيت الأمريكي أو الأوروبي ينالنا كثير من التعجب والاستغراب والتساءل، ليس جديدا علينا دعوة الإصلاح فقد انطلقت بوادره منذ أكثر من قرن، كان عنوانا ملازما لرواد النهضة! ولكن الغريب أن يزعمه غيرنا وكأننا ليس لنا فيه لا سابقة ولا ناقة ولا جمل! ليس جديدا علينا تشخيص الداء وطرح العلاج فليست أطروحات النهوض التي تتنزل من هنا وهناك وملأت الرفوف والمكتبات إلا تعبيرا عن هموم نعيشها ونريد تجليها!
إن ما يعرض اليوم من دعوة خارجية مستعجلة للإصلاح الداخلي رغم أهدافها المصلحية الواضحة تحمل في طياتها عيوبا لا يمكن أن تترك هذه الدعوة سليمة وتؤدي إلى الإصلاح الحقيقي لمجتمعاتنا، بل نخالها إذا لم تفهم دورها وتسلم بدور الآخرين، إلا أطروحة تزداد إلى أطروحات الفشل والإسقاط والتهور والانبتات التي غصت بها نوادي الغرب ومراكزه وحملتها العديد من مدارسه الفكرية والتي كانت مجتمعاتنا مخابر لتجاربه وأحوالنا المنهارة تعبيرا على فشلها وهزيمتها.
إن الدعوة للإصلاح من ديمقراطية سياسية وانفتاح اقتصادي وتقارب للأسواق يجب أن يراعي شروطا نخالها أساسيات نجاحه وأهمها احترام الثقافة والمرجعية والهوية لهذه الشعوب، المضطهدة تاريخا في بعض لياليه المظلمة، والمكبوتة والمعتدى عليها في أيام حاضرها التي لم تر إشراقة شمس فيها. إننا نرى بكل موضوعية أن البراغماتية الأمريكية إذا أرادت حقا لمشروع الإصلاح الجديد أن ير النور ويغمر أطرافه، أن يحترم بعدا ومكونا أساسيا لا سبيل إلى تجاوزه أو معاداته أو تهميشه أو استبداله أو محاولة ترقيعه، وهو الدين، الذي كيّف ثقافة هذه الشعوب و شكّل عقلية أفرادها، و الذي ألقى بردائه على كل تاريخ أجدادها، وهو يعود اليوم بكل قوة في تثبيت هويتها وربط حاضرها بماضيها وفتح أبواب النهوض الروحي والمادي لمستقبلها.
إن المرجعية الدينية لهذه الشعوب أصبحت عنصرا ضاغطا وظاهرا، مثلته العودة إلى ينابيع التدين ومظاهره من ارتياد للحجاب، وازدياد مقيمي الشعائر والطقوس، ومرتادي أماكن العبادة. كما حملت عنوان هذه المرجعية في بابها السياسي والحضاري حركات سياسية جعلت من برامجها التغييرية وتصوراتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ذات بعد إسلامي ومنطلق ديني.
هذه القولة لا تلغي ملاحظتين، الأولى أن هذه الحركات السياسية ذات المرجعية الدينية والتي يطلق عليها الحركات الإسلامية الإصلاحية، ليست الممثل الوحيد والشرعي للإسلام كدين، إنما تمثل تصورا ورأيا وحلولا لحاضرها تكون منطلقاته وأهدافه دينية، فلا عصمة لفكرها ولا قدسية لرجالها. وثانيا فهي الأقرب والأوضح في تبني هذا البعد الديني وتغطية كل أفعالها تحت مظلته. لن نكون إقصائيين إذا اعتبرنا دون إسراف ولا تضخيم ولا تجاوز أن الحركات الإسلامية الديمقراطية هي التي تعبر اليوم أكثر من منافسيها من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال من ليبراليين ويساريين، عن هذه العلاقة الغليظة مع الدين.
إن البراغماتية الأمريكية إذا أرادت أن لا تعيد التجاوز الذي وقعت فيه العلاقة القديمة بين الشرق والغرب، وما حملته من مواعيد خاطئة، وما جرته من ويلات داخل الإطارين، عليها احترام هذين العنصرين، ثقافة الشعوب الدينية من جهة، والتمثيلية الحركية والسياسية الإصلاحية والديمقراطية لهذه المرجعية الدينية، من جهة أخرى. وهو يعني علاقة احترام وتعارف، تنبذ صراع الحضارات والأديان، وتربأ عن العلو الثقافي والديني، حتى يحصل لقاء الشعوب والمشاعر والعقول، وهو يعني كذلك المراهنة الواضحة والوحيدة على علاقة متميزة مع الإسلام الإصلاحي الحركي. إن هذين العنصرين يشكلان الآلية الناجعة لكل مقاربة سليمة لإصلاح جادّ وواعي ودائم داخل هذه الأوطان.
لقد قطعت البراغماتية الأمريكية شوطا هائلا رغم ما يشوبه من بعض الضباب والمواقف والحسابات، في تجاوز مرحلة التوجس رغم صعوبة المرحلة، فقد عبرت بعض المواقف الأخيرة عن بداية تفهم للظاهرة الإسلامية في مستواها الديني والسياسي الإصلاحي من خلال غض النظر عن ارتقاء حزب إسلامي ديمقراطي إلى منصة الحكم في تركيا والدفاع عن بعض رؤاه للاندماج في الإطار الأوروبي، ومن قبول ولو اضطراري حسب البعض من تواجد للتيار الإسلامي الإصلاحي والسلمي في المشوار السياسي العراقي، لكن الطريق لا تزال في بدايتها ولعل عديد العوامل الأخرى، ومنها ضغوطات اللوبيات والأيديولوجيات داخل أهل القرار تمثل مطبات وحواجز يجب الكثير من العناء والبناء لتجاوزها، ولعل عامل الزمن إذا اصطبغ بالهدوء والاستماع والتفهم، قابل إلى يرفع هذا التحدي الذي يتجاوز مصير بلد أو مجموعة، ليرتبط به مصير العالم ومسار الحضارة.
إن هذه البراغماتية المطلوبة من الضفة المقبلة، يجب أن ترافقها براغماتية من جانب الحركة الإسلامية الديمقراطية، وأهمها الحسم النهائي نقلا وعقلا في تبني الديمقراطية كخيار في منهجية التعامل الداخلي والخارجي، واعتبار أن مناشدة المصلحية ليس نقيضا للمبدئية، وهو ما يتسارع إلى الذهنية الإسلامية غالبا، وكأن المبادئ لا تحمي المصالح، والمصالح لا تحترم المبادئ. فكل مصلحي غير مبدئي، والمبدئي غير مصلحي بداية! ومن مصلحة الحركة الإسلامية الديمقراطية اليوم تأكيد هذا التقارب والسعي إلى تمكينه حتى يحصل المنشود. وعالم السياسة يتطلب الكثير من المرونة والقبول بأنصاف الحلول في انتظار استكمالها، من أجل فلاح الطرفين واستقرار مجتمعاتهما والسلم العالمي.
[email protected]
[email protected]