تمر الأمم والشعوب بفترات من التحول مثلها في ذلك مثل الإنسان الذي يمر بمراحل عمرية مختلفة فمن طفولة إلى صبا ومراهقة ثم لشباب ورجولة ثم لشيخوخة وهرم فمن بعد قوة ضعفا ومن بعد الضعف قوة وهكذا لكن يبدو أن الأمر مختلف فيما يخص تاريخ أمتنا العربية والإسلامية فما تمر به أمتنا حاليا بعد طول ركود وخمول استغرقت عدة قرون وبعد أن لاحت بوادر نهضة جديدة في تاريخ الأمة انتكست في السنوات القليلة الماضية نتيجة لعوامل اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية وجدنا أنفسنا فجأة في وضع لا نحسد عليه هذه الفترة لم تشهدها الأمة من قبل وحاولت كثيرا أن أجد وصفا يمكن أن يطلق على هذه المرحلة فلم أجد أصدق من وصف زمن الوهن وهو وصف دقيق يجمع بين الضعف والتخاذل والاستسلام للأمر الواقع وهو وصف أطلقه الرسول على مرحلة معينة من تاريخ الأمة ويبدو أنها مرحلتنا الراهنة بامتياز فقد جاء هذا الوصف في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله في الحديث الصحيح: توشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا أمن قلة نحن يومئذ يارسول الله قال بلى كثير ولكن غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله المهابة من قلوب عدوكم وليقذفن في قلوبكم الرعب قالوا وما الوهن يا رسول الله قال حب الدنيا وكراهية الموت.
وفي زمن الوهن تصبح الأمم في حالة من البلاهة والبلادة لا تكترث لما يدور حولها ويدبر لها من مكائد ومصائب وهو ما تمر به أمتنا حاليا حيث تعصف بها الأهوال من كل جانب وتتربص بها الذائب الضارية لتنهش لحمها وهي لاهية عابثة غير واعية بحجم الأخطار وحقيقتها على حين نجد نفر من بني جلدتنا يتآمرون مع عدونا ويسعون لإرضائه وكسب وده بكل السبل ومهما كانت النتائج وما حدث ويحدث في فلسطين منذ فترة من صراع على السلطة ومحاولة بعضهم تقديم القرابين لإرضاء سادة دولة الكيان الصهيوني حتى يتقدم الصفوف إيذانا بإفول نجم ياسر عرفات وولادة نجم جديد يأتي فوق دماء وجثث الأطفال والشيوخ من أبناء الشعب الفلسطيني والغريب في الأمر أن هؤلاء البعض يتبجح بكل وقاحة ويعلن تشرفه بوقوفه خلف الأحداث الأخيرة في غزة بحجة محاربة الفساد وهو نفس الموقف الذي حدث لفريق من العراقيين الذين جاءوا فوق الدبابات الأمريكية لتدمير واحدة من أعرق الحضارات في التاريخ باسم تحرير الشعب العراقي من الظلم والاستبداد ولا يرف لهم جفن لدماء وأعراض الأبرياء والمضطهدين ولا يتحركون لهدم دور العبادة على رؤوس المصليين والمتبتلين الركع السجود ولا ترتعد فرائسهم لنهب تراث العراق وآثاره وحرق مخطوطاته النادرة كل هذه الأحداث تتم باسم الحرية والديمقراطية والاستقرار..!
الغريب في الأمر أنه في أزمنة الضعف والتخاذل يحاول الناس الالتفاف على المبادئ فتأخذ الأشياء شكلا مغايرا وتسمى الأمور بغير أسمائها الحقيقية فتصبح الخيانة بطولة وتصبح المقاومة تطرفا وإرهابا وهو مأزق لا نحسد عليه حيث تحولنا من ضحايا إلى متهمين ومطاردين يترصدنا الجميع في المطارات والموانئ وأصبحت جنسيتنا لعنة علينا نحاسب من أجلها كما أن لغتنا أصبحت متهمة ومراقبة حتى إشعار آخر بل إن ملامحنا أصبحت موضع اتهام وإذا كان الأصل في القانون أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته فالآن العربي متهم حتى يثبت العكس إن استطاع وما حدث للمهندس المصري العالمي ممدوح حمزة في لندن خير شاهد على ذلك فمهندس عالمي يتلقى دعوة من ملكة بريطانيا لحضور حفل إفطار وتناول الشاي على شرف الملكة لمجرد شكوى كيدية توجه له يلقى القبض عليه ويودع في السجن دون تهمة ولو كان العكس هل كانت ستسكت بريطانيا وغيرها من دول أوربا لو حدث وتم القبض على شخصية غربية مشهورة لمجرد شكوى كيدية هل كان سيمر الأمر مرور الكرام؟ أم لأنه عربي متهم حتى إشعار آخر وما حدث من قبل أيضا لوفد دولة إسلامية أجبروا على خلع أحذيتهم وملابسهم في إحدى المطارات الأمريكية ليس سوى صك اعتراف بزمن الوهن الذي نعيشه فقد هانت علينا أنفسنا فهانت على الآخرين فرغم صداقة حكوماتنا لواشنطن وخدمة الكثير منها بإخلاص للدولة العظمى لم يشفع لها ذلك ولم تنل واحدة من تلك الدول صك البراءة فالكل متهم والكل مطالب بالخروج من جلده وتغيير ملامحه ولغته حتى تركيا التي لهثت خلف الغرب أكثر من ثمانين عاما لم يشفع لها ذلك بقبولها عضوا في الاتحاد الأوربي فقد صرح البابا أخيرا أن تركيا إسلامية الثقافة وعليها أن تتجه نحو الدول الإسلامية وليس نحو الدول الغربية مسيحية الثقافة إن الغرب بصريح العبارة لا يريدنا شريكا له أو أصدقاء نتعامل معاملة الند للند بشرف وتكافأ ولكنه يريدنا مجموعة من الأتباع ينفذون ما يأمرهم به السيد الشريف دون مناقشة ولا اعتراض.
.
في زمن الوهن الذي تمر به أمتنا تنعدم الألوان وتتحول لنقيضها دون مقدمات منطقية فمن السهل أن يصبح البريء متهما والمتهم بريئا والشريف لصا واللص شريفا لأن المبادئ والثوابت يمكن تغييرها والعبث بها فكم من شريف لفقت له التهم وزج به في غياهب السجون وكم من لص محتال يختال كالطاووس ويتباهى بقدراته الخارقة على تخطي الحدود والسدود والقفز فوق القانون ولي عنق الحقيقة بالمكر والاحتيال فيصبحون أعضاء في البرلمانات ويتاجرون في كل شيء الشرف والأخلاق والمبادئ التي تتحول لعملة مبتذلة وكاسدة لا سوق لها في زمن الربح بأي ثمن والتجارة في كل شيء ويصبح العري والتهتك التي تحفل به فضائياتنا دليل مدنية ورقي ويصبح المحافظة على القيم والمبادئ دليل تخلف ورجعية.
في زمن الوهن يختفي الكبار ويتصدر الصفوف أنصاف المواهب وعديمي الخبرة وأنصار الفهلوة وتغيب الشخصيات الجادة وتحارب ولا تلقى اهتماما لأن وجودها يصبح دليل اتهام لعديمي الموهبة من المتسلقين والمنافقين ولهذا سادت في بلادنا مقولة أهل الثقة لا أهل الخبرة وعلى يد أهل الثقة فسدت الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية لأن هدفهم كان هو مصلحتهم الشخصية وليس مصلحة الجماهير ولا مصلحة الأمة وحينما يتولى عديمي الخبرة وغير المؤهلين قيادة الشعوب فهذا دليل على الاضمحلال والأفول وأكبر دليل على أننا بالفعل نعيش في زمن الوهن.
في زمن الوهن تعيش الأمم الواهنة بلا هدف واضح ولا خطة محددة أشبه بفاقد الوعي الذي نام في كهف ولا يشعر بما يدور حوله وحينما يصحا من ثباته ويسترد وعيه يجد نفسه في زمن غير الزمن ولا يستطيع التفاهم مع الناس بلغتهم ولا بفكرهم لأن زمنه قد ولى إلى غير رجعة.
كاتب مصري جامعة الإمارات
[email protected]
التعليقات