المهندس عدنان ابو زيد


كلما حدثني معلمي عن اوروبا كنت اطلق العنان لمخيلتي واتصور دولا عملاقة مثيرة للشغب تريد استئصال الامم الصغيرة ونحن منها، لتجعلها اجزاء لها ماسخة شخصيتها ومحطمة كبريائها.
وكأي تلميذ شاطر يقتفي اثرمعلمه ويترعرع علي ثقافة مجتمعه كنت اشعر بالظلم وينتابني الحقد علي دول تبغي محو شخصيتي وتنازعني البقاء.
وكانت اسماء دول مثل الدانمارك او هولندا اوا لسويد او بلجيكا كافيا لان يستنفر الحقد في داخلي، فكيف الحال مع اسم بريطانيا التي قال عنها معلمي انها سرقتنا واعتدت علينا!
والذي تخيلته الان سؤال لم اساله لمعلمي يوم كنت صغيرا، لماذا لم توفر ثقافتي المدرسية السائدة فرصة عادلة لان اتعرف بصدق وحيادية علي دول ماوراء البحار ولماذا اعمتني تلك الثقافة واعمت معلمي عن النظر ابعد ولو قليلا عن ارنبة الانف، لكي استطيع ان اجيب عن السبب في اننا اصبحنا ضعفاء، بينما هم اقوياء!
معلمي لم يحدثني مثلا ان الدانمارك دولة صغيرة وجميلة وان لها ملكا يمشي مع الاطفال بلا حراس وجنود ومعه جمهور من الصبيان الصغار والبنات الصغيرات لكنهم لايصفقون له بحماس كاذب ولايركضون وراءه حفاة وقد عضوا ثيابهم باسنانهم بل كانوا يصطفون بانتظام يحيونه بالابتسامة والورود.
ولم يقل لي ان فنلندا بلد صغير وان اهلها يثيرون الاعجاب لما قاموا به من الاشياء التي قد يظن البعض انها مما لايقوي عليه الا اهل الرشاقة والحيف، وانهم امتلكوا بصرا أحد من بصرنا الكليل الذي نستخدمه في مناطق الوانها انقى ومعارفها ابهر بينما هم خلقوا في بيئة صعبة من الثلج والغابات، وان الفنلنديين لاينشدون الجمال وحده في البناء بل طول العمر وحسن الماوي وبيوتهم ومستشفياتهم بمثابة تجارب جريئة في سبيل قواعد جريئة للانتفاع، وعلي فقرهم استطاعوا ان ياتوا بما لم ياته الاعظم منهم ثراءا وهم يقرأون بنهم ويعكفون علي تحصيل الثقافة الحديثة وفي عاصمتهم هلسنكي اكبر مكتبة لبيع الكتب في العالم.
لم يرو معلمي ان الهولنديين فلاحون بسطاء وان هولندا بلد صغير وصغير، لكن الهولنديين يريدون ان يلتهموا كل مافي الحياة فلا يفوتون لحظات الحياة الرائعة التي يعيشونها بين مناظر بلادهم الرائعة من بحور زرق وجزر متناثرة وسواحل ارخبيلية وقمم ثلجية ارستها الطبيعة فاحسنوا الاستفادة منها.
وهم حين يتذكرون الاحتلال النازي لبلدهم فانهم يصفونه بانه ماض ولى وان الجار الكبير المانيا الان صديق وحليف وان الماضي الاليم يجب ان يصبح في خانة الذكرى!
وعن المانيا لم اسمع من معلمي غير هتلر فلم يقل لي مثلا ان الالمان ينشدون الاغاني الجميلة التي تدور في جمال الطبيعة ونسائهم يشرن الي هذا في التطاريز المعقدة التي يضفنها علي ملابسهن وقمصان ازواجهن، وانهم اناس حرفيين يتقنون الالة ويبتكرون اشياء جميلة للحياة ! ولديهم اضخم معامل السيارات في العالم وهم يغنون ويرقصون كأن الدنيا خلت من الاشجان وكأنهم لم يحاربوا.
لم يقل ان البلجيكيين يهتمون بالغريب لانه مثلهم متورط في مغامرة الحياة العجيبة فيصغون الي تجاربه ويقصون عليه تجاربهم وهم يشربون النبيذ ويأكلون السجق ويبدون في اصغائهم وحديثهم عطفا عميقا مصدره حب حقيقي للعالم.
ليت معلمي كان يعرف الحقيقة اذن لقالها وهو مثل ابي نتاج ثقافة لاتفهم من هذه الدول الا الاستعمار مثيرة للحروب ومبتدعة للفتن.
ومن كان من تلاميذ مدرستي يعرف ان العراق بحجم المانيا ويزيد، وليبيا اكبر من مجموع ثمانية دول اوروبية والسعودية تفوق مساحة فنلندا بالكثيرالكثير، وهولندا لن تكون الا نقطة صغيرة في خارطة العرب المتراميةالاطراف ولكنها تصدر من الجبن والكتب اضعاف ما تصدره الدول العربية قاطبة.
والطريف ان معلمي قال ذات مرة ان علينا ان نتطور ولكنه كان حائرا بين ان نتطور بقفزات كقفزات الكنغر ام علينا ان نتريث في المسير تريث السلحفاة لئلا نضيع عاداتنا الحميدة وتقاليدنا التليدة. لعلي اليوم انصف معلمي حين التقيته ذات مرة في عمان وقد هم بالسفر الي ماوراء البحار حينها ربت علي كتفه وسألته كيف يري الامر اليوم فاجابني انه يود قضاء بقية عمره في بلاد المنافي وفي اوروبا بالتحديد لانه سمع من اولاده الذين يقيمون من امد طويل طويل هناك ان الضمان الاجتماعي في تلك البلاد الغريبة كفيل لان يجعله يقضي بقية عمره سعيدا مترفا بين الماء والخضراء والوجه الحسن، بعد ان افني عمره في وطن لم يذق فيه طعم الراحة ولو لمرة !