في الثلاثين من كانون الثاني القادم، سيتوجه الناخبون العراقيون لاختيار ممثليهم في البرلمان، الذي اطلق عليه قانون ادارة الدولة المؤقت تسمية "الجمعية الوطنية"، لكونه جمعية تأسيسية في المقام الاول، تمهد لقيام دولة المؤسسات في العراق. وتجربة الانتخابات هذه ستكون هي الاولى التي تجرى بهذا الحجم في تاريخ الدولة العراقية، والتي ستحدد، بلا شك، مصير الشعب العراقي بشكل يفترض ان يكون ديمقراطيا.

على ان هذه الصورة الوردية لا تخفي صورة اكثر قتامة في المشهد العراقي، الذي يتأرجح بين نار الارهاب الحاضرة، وجنة الديمقراطية الموعودة.. ذلك المشهد من العنف اليومي الذي يهدد مفاصل الدولة المختلفة بدءا من قواتها الامنية، ورموزها الوطنية، مرورا بطاقاتها وكفاءاتها الابداعية والفكرية، وانتهاءا بمواطنيها العاديين، عبر استهدافات عشوائية، لا تحمل من الدلالات اكثر من عرقلة مسيرة البناء والتحرر والنهوض بالامة الى المستوى الخليق بها، كمهد لحضارة عريقة وموطن لاديان سامية.

والمواطن البسيط، في غمرة الحيرة وعدم الاستيعاب لما يجري من احداث في يومه وليلته، يعرب عن امله في المستقبل، ولا يخفي خوفه من الحاضر، وفي احيان قليلة يبدي حنينه الى الماضي. ولا تجد في الجهة المقابلة، والتي تعتمد على هذا اللبنة الاساسية (المواطن)، تلك الجهة التي تشتمل على المؤسسات الحكومية، والحزبية، والدينية، والعشائرية وما سواها، لا تجد لديها اهتماما واضحا بهاجس الشارع، او بتطلعاته وآماله. بل ربما انعزل بعضها في صومعة، ومن ثم نادت بنفسها مخلصة، ومنقذة، وخيارا وطنيا.. واستغرقت في رفع الشعارات دون ان تفعل شيئا ملموسا للبرهنة على صدق النوايا وحسن التوجه.

وقد تكون الانتخابات المقبلة ميدانا لاثبات وجود التيارات السياسية المتعددة التي تعج بها الساحة العراقية، في فترة ما بعد سقوط الطاغية، حيث يكون صندوق الاقتراع حكما في شعبيتها ودرجة قبولها على الصعيد الاجتماعي. الا ان هذه الانتخابات، بالمقابل، قد لا تؤدي الا الى تكريس وجود بعض التجمعات او الاحزاب التي لا تمتلك بعدا جماهيريا، او حضورا شعبيا، كنتيجة لطبيعة النظام الانتخابي الذي يسمح باحتواء اطراف مختلفة ضمن القائمة الواحدة. ولن تكون هناك ضمانة لفوز التنظيم الذي يصوت له الناخب، طالما كان يمنح صوته لكل تلك الاطراف. وقد عبّر احد المرشحين عن خيبة امله حينما جاء تسلسله متأخرا في القائمة بقوله "الذين هم في ذيل القائمة انما يعملون من اجل فوز من هم في اعلاها، دون ان يكون لهم حظ وفير في الفوز"، وذلك بسبب النظام النسبي المتبع في هذه الانتخابات. ان كثيرا من الناخبين سيدلون باصواتهم لصالح قوائم ذات شخصيات متميزة من وجهة نظرهم، مهما يكن تسلسل تلك الشخصيات.

فاذا لم يكن توجه الناخبين نحو الافراد او الشخصيات في القوائم، وانما نحو البرامج الانتخابية للاحزاب التي تحتويها تلك القوائم، فان الصورة لن تكون اكثر اشراقا. انظر الى اللافتات التي تملأ الشوارع وتحمل شعارات تدل على البرامج الانتخابية لاصحابها. فهذا الحزب يؤكد انه سيعمل على توفير فرص العمل في حالة فوزه، وذاك سيكون همّه حلّ مشكلة الكهرباء (المزمنة)، وثالث يركز على توفير الخدمات، وهكذا.. وهم جميعا يتفقون على ان انتخابهم يعني احلال الامن، وانهاء الاحتلال باخراج القوات المتعددة الجنسيات.. وتلك –لعمري- دعاية انتخابية هزيلة، تستخف بعقل الناخب بشكل لا مثيل له. فحريّ بهذا الشعب، الذي يتوفر على طاقات فكرية تبز كثير من الشعوب الاخرى، ان يُخاطب اعلاميا بشكل اكثر وعيا، واقل اسفافا. سيّما وان من يدعي قدرته على احلال الامن، قد اتيحت له الفرصة في الماضي لاثبات ذلك، حيث انه اما كان ضمن مجلس الحكم السابق، او عنصرا في الحكومة الحالية.

اما شعار توفير الخدمات، فهو امر يعتبر بديهيا بالنسبة لاية حكومة، فما الذي يجعل الوعد به دعاية انتخابية؟ هل اصبحت قضايا مثل ازمة الوقود وندرة الكهرباء عصية على الحل الى هذه الدرجة؟ على اننا لا نعلم بلدا اخر في العالم يعاني من ازمات مماثلة، وبهذه الحدة سوى العراق، وما ذلك الا بسبب سوء ادارة الدولة او اهمالها. تلك الدولة التي تشكل الاحزاب المتنافسة في الانتخابات الحالية، ركنها الاساس.. وهي مع ذلك لا تعترف بالتقصير، بل على العكس ترى انها غير مسؤولة عن تلك الازمات، وان الامور لا تحل الا بحكومة (شرعية).. أي منتخبة ديمقراطيا.

وهذا هو كل ما استطاعوا ان يعرفوه عن الديمقراطية، عنوان واحد مستل من بين مجموعة عناوين هي في اصلها مترابطة ومتلاحمة. فالانتخابات هي الحل لمشاكل العراق لان الحكومة المتمخضة عنها ستكون شرعية، ومطلقة اليد، بناءا على ذلك، في التعامل مع جميع القضايا والاحداث بالشكل المناسب. غير ان هناك عناوين اخرى للديمقراطية ليست اقل، ان لم نقل انها اكثر، اهمية من الانتخابات ذاتها. فاين الشفافية الحكومية؟ اين دور مؤسسات المجتمع المدني؟ اين سيادة القانون واستقلاليته؟ واين تفعيل دور الاقليات في البناء الوطني؟ ثم اين دور الاعلام كسلطة رابعة؟ وغير ذلك مما لا يخفى على القاريء اللبيب.

فاما الشفافية، فقد غابت تماما. وحلّ محلها الفساد الاداري كنتيجة حتمية لهذا الغياب. وبات كل صغير وكبير في الدولة او خارجها، يتحدث عن موضوعة الفساد ويؤكد على القضاء على رموزه حال توفر الدليل.. وهكذا اخليت المسؤولية الرسمية، ووضعت على عاتق المواطن، الذي لا يملك حيلة في الامر.

واما مؤسسات المجتمع المدني، فبعضها نقابات احتفظت بجمودها المتوارث، وظلت تلعب دور المساند للسلطة او لبعض احزابها، وبعضها جمعيات انشأت للحصول على التبرعات والمنح لاعضائها اولا، ومن ثم القاء الفتات للمحتاجين، وبعضها منظمات (متخصصة) في بعض المجالات كتعليم الديمقراطية والحث على الانتخابات، وان كان معظم العاملين فيها يجهلون مباديء هذين وغيرهما.

اما العنوان الكبير في الديمقراطية المتمثل بسيادة القانون، فما من شيء اكثر منه غيابا. فالقانون نادرا ما يأخذ مجراه في موارد يكون فيها البلد احوج ما يكون لتطبيقه، كمكافحة الارهاب مثلا. وقد عبّر عن غياب القانون مسؤولون رفيعون في الدولة باعلانهم عدم جواز محاكمة مجرم القرن العشرين، الطاغية صدام، بدعوى عدم شرعية الحكومة الحالية. وعلى هذا الفرض، فما شأن القضاء بذلك؟ الا يفترض ان يكون القضاء مستقلا عن السلطتين التشريعية والتنفيذية؟ وهل نمتنع عن محاكمة المجرمين اذا لم تكن الحكومة منتخبة؟ على ان الكثيرين يعتقدون ان هذا هو احد اسباب الانفلات الامني الرئيسة، فمن امن العقاب...

والحديث عن الاعلام، ودوره الريادي، قد لا يوافق عليه البعض. اذ ان الظاهر ان الحرية التي بدأ العراقيون يتمتعون بها تجلت باوضح صورها في حرية الاعلام. لكن ذلك ليس الا وهما وخداعا. فالاعلام في حقيقة الامر علاقة ثنائية، لا تتم فقط بالتعبير عن هموم وتطلعات الشارع، وانما بالاستجابة لهذه الطروحات من جانب السلطة، والاصغاء اليها بجدية واهتمام بالغين. فهل هذا هو الحال اليوم؟ الاعلاميون يتحدثون من منابرهم حول كل شيء دون خوف من مساءلة او ملاحقة، لكن بعضهم يشعر انه انما يتحول الى اداة للاستهلاك المحلي، لا غير.

ويبقى موضوع اهمال دور الاقليات اكثر المواضيع حساسية في الوقت الراهن، تجسد ذلك مسألة المشاركة في الانتخابات. فمن الناحية النظرية تعد نتائج الانتخابات مقبولة مهما تكن نسبة المشاركة، وليس هناك اشتراط لتوفر ممثلين لكافة شرائح المجتمع العراقي في الجمعية الوطنية، لا على مستوى المحافظات ولا على مستوى الطوائف. وبينما يؤكد ممثلو الطائفة الشيعية، التي تشكل الاغلبية كما هو معروف، على اجراء تلك الانتخابات، فان الكثيرين من الطائفة الكبيرة الاخرى، وهي الطائفة السنية، بات بحكم المؤكد عدم قدرتها على المشاركة فيها.. اما بسب الخلل الامني، او للتخوف من النتائج التي ربما ستؤدي الى تهميش دورها السياسي، كونها اقلية لا تؤثر في اتخاذ القرار. وكثيرا ما تلاقى محاولات تهدئة الخواطر ومدّ الجسور للتقريب بين هاتين الفئتين بالرفض المطلق. اذ ان معظم تلك المحاولات يقتضي تأجيل الانتخابات لسقف زمني محدد، او تعديل القانون الانتخابي. والحجة في هذا الرفض حاضرة دائما، اذ لا يمكن تغيير الدستور الذي حدد الموعد للانتخابات، ولا القانون الانتخابي الذي سنّ قبل تشكيل المفوضية (من قبل سلطة الائتلاف المؤقتة)، و لا احد يمتلك صلاحية تغييره. فوا عجبا، اذ يُقدس القانون في مورد الانتخابات وان وضعه اجنبي، وينحى جانبا في مورد محاكمة المجرمين، وان كان عراقيا صرفا!! على ان الاخذ بالاقتراحات حول الانتخابات يعني تفويت الفرصة على العناصر المتحكمة في مجمل العملية الانتخابية في الوقت الحاضر، وهي الاحزاب التي شاركت في مجلس الحكم، خشية ظهور عناصر اخرى تنافسها وتحمل طروحات جديدة اقرب الى نبض الشارع، فتهوي بهم الى قاع سحيق لا مخرج منه. ولا يزال في المعادلة طرف اخر يدفع لاجراء االانتخابات باي ثمن، ذلك الطرف هو السلطة غير الرسمية للقوات المتعددة الجنسيات وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي تريد ان تثبت صواب مشروعها في العراق، وانها انما تبني ديمقراطية في البلد (كنموذج يحتذى) بروباغانديا على الاقل. وهكذا اصبحت الانتخابات قيثارة تعزف على وترها الاحزاب، ويرقص على انغامها الامريكان، بينما الشعب العراقي يتفرج!!

ان ما نريده هو عملية مدروسة لاحلال الديمقراطية، من خلال تطبيق جميع مفرداتها المتبعة في الانظمة العالمية الراقية، وصولا الى نظام حكم متوازن، شفاف، مسؤول، وتمثيلي. وآخر ما نتمناه ان تستخدم بعض هذه المفردات من اجل تكريس الواقع و(تشريع) الاستيلاء على السلطة من قبل فئات بعينها، وان كلف الامر حربا اهلية لا يعلم الا الله مقدار خطرها.

http://alaaghazala.blogs.com